Labels

Wednesday, December 9, 2009

الرعاية



الرعاية

لاغريغوريوس الكبير

الجزء الأول

الناشر كنيسة مارجرجس باسبورتنج

مقدمة

هذا الكتاب يبحث في موضوع يهم الكنيسة المقدسة في كل الأجيال وخاصة في جيلنا هذا. فموضوع الرعاية بالنسبة للكنيسة الأرثوذكسية هو مو ضوع حيوي لأنها كنيسة أبوية. ومنذ اللحظة التي ضعفت فيها الرعاية وفترت الأبوة في الكنيسة، منذ هذه اللحظة والكنيسة تُعاني ضعفاً وركوداً.
ولهذا الكتاب قيمة تاريخية إذ أنه كان يُسلم للأساقفة في أوروبا عند رسامتهم أمام المذبح مع الإنجيل المقدس وقوانين الآباء الرسل. ومما يضيف إلى قيمته التاريخية أن إغريغوريوس الكبير استقى موضوعه واقتبس كثيراً من العظة الثانية كتبها القديس اغريغوريوس النزينزي عن الرعاية في سنة 362م. وقد أوردنا مثلاً لهذا في الفصل السادس من الباب الأول. وربما إستعان المؤلف بكتاب "الكهنوت" للقديس يوحنا ذهبي الفم الذي كُتب في سنة 382م. إلا أنه ليس لدينا دليل قاطع على هذا.
بقى أن تعرف أيها القارئ العزيز أن الكتاب يتألف من أربعة أبواب. ترجم الجزئين الأولين منهم عن النص الوارد في مجموعة كتابات الآباء الأولين The Ancient Fathers Writings بعد ما قورنا بالنص الوارد في مجموعة "أباء نيقية".
راجين الرب يسوع الراعي الأعظم أن يأتي الكتاب بالثمر المطلوب لخدمة الكنيسة الجامعة رعاةً ورعية، له المجد آمين؟
الكنيسة



الباب الأول

مسئولية الراعي






مقدمة
من أغريغوريوس إلى أخيه المُكرم الأسقف الشريك، القديس يوحنا.
أخي العزيز: إنك تلومني في عطف واتضاع لأنني قصدت باختبائي هذا الهروب من ثقل الأعباء الرعوية. وكل ما أخشاه أن تظهر هذه الأعباء للبعض وكأنها هينة وبسيطة لذلك قصدت من هذا الكتاب أن أبين كم هي شاقة كي يعلم الذين لم يحملوا نيرها أنه لا ينبغي لهم – في نظري – أن يسعوا بجهالة في طلبها. أما الذين قد صاروا جهلاء لرغبتهم المُلحة فيها فليشعروا بخوف في إقتنائها.
إن طبيعة الموضوع لتتطلب من الراعي أن يدرك جيداً.
أولاً: ما هية الطريقة التي ينبغي بها الإقدام إلى مكانة عالية المقدار.
ثانياً: كيف يسلك الراعي حين يصل إليها باستحقاق، وكيف ينبغي أن يعلم الآخرين في حياة الاستقامة، وبأي نوع من اليقظة ينبغي أن يتحقق الراعي من ضعفاته اليومية خلال قيامه بخدمة التعليم.
ينبغي أن تتضح كل هذه الأمور لئلا يفتقر إلى الإتضاع بعد الوصول إلى هذه الدرجة. إن طرق الحياة الآن تناهض تماماً هذه الخدمة، فلقد إبتلع العلم حياة الاستقامة وبالغ الفكر البشري في تقدير العلم. لهذا وقبل كل شيء يجب أن يضع الخوف حداً لإشتهاء الوصول إلى مثل هذه المراكز. أما إن وصل الإنسان إلى مثل هذه الدرجة دون أن يطالبها فلتكن حياته سبباً في تمجيدها، إذ من الضروري إيضاً أن تظهر إستقامة الراعي في سلوكه عن طريق الوعظ والإرشاد.
أخيراً ليس لي شيء أضيفه إلا أنه ينبغي أن نتحقق من ضعفاتنا الذاتية التي تحقر من قدر كل ما أحرزناه من أعمال لئلا يؤدي زهو غرورنا إلى تجريد هذه الأعمال من قيمتها في عين الديان غير المنظور.

الفصل الأول

لا يجسر أحد أن يقوم بتعليم أي فن من الفنون إلا إذا أتقنه بالتأمل والدراسة. إذاً كيف يندفع غير المتأهل ويحمل واجبات الرعاية على عاتقه وهو يعلم أن قيادة النفوس هي فن الفنون.
ومن منا لا يعرف أن جراح العقل هي أشد تأصلاً من جراح الجسد الداخلية. إن الذين يجهلون خواص العقاقير الطبية يخشون أن يعلنوا أنهم أطباء للجسد، ولكن مما يؤسف له أن الذين يجهلون المباديء الروحية تماماً، لا يترددون في كثير من الأحيان في أن يدعوا أنهم أطباء للروح.
ومع أن العناية الإلهية قد فرضت على أصحاب المسئوليات أن يلاحظوا الأمور الدينية، إلا أن البعض منهم يتوق إلى العظمة والتقدير باستعراض مظهري لسلطتهم داخل الكنيسة المقدسة. أنهم يرغبون في الظهور كمعلمين ويشتهون السيادة على الآخرين كما يشهد الحق الإلهي "ويحبون المتكأ الأول في الولائم والمجالس الأولى في المجامع والتحيات في الأسواق" (من 23: 6).
مثل هؤلاء الأشخاص هم أبعد ما يكونون عن الصلاحية للقيام بأمانة ولياقة بالواجبات الرعوية، إذ يبلغ بهم الأمر أن يصيروا معلمين للتواضع بكلام كله كبرياء، ومن الواضح أنه في مثل هذا التعليم لا ينطقون إلا بلغو باطل، إذ هم يعلمون عكس ما يسلكون. على هؤلاء الناس يعلن الله غضبه على لسان النبي قائلاً "هم أقاموا ملوكاً وليس مني، أقاموا رؤساء وأنا لم أعرف" (هوشع 8: 4).
هؤلاء يحكمون برأيهم وليس بإرادة المدبر الأعلى. إنهم يستندون على أية فضيلة فالله لم يدعوهم، لكنهم إندفعوا بجشعهم إلى منصب الرعاية. وحقيقة الأمر أنهم لم يصلوا إلى ذلك المنصب ولكنهم إغتصبوه.
إن الديان العادل ينكرهم ويتجاهلهم لأن الذين يخفف عنهم التجارب والآلام في هذا العالم إنما هم في الحقيقة مرفوضون منه. لهذا يقول رب المجد لمثل هؤلاء حتى ولو قاموا بصنع المعجزات "تباعدوا عني ياجميع فاعلي الظلم، لا أعرفكم قط" (لو13: 27، مت 7: 23).
إن صوت الحق الإلهي يوبخ عدم صلاحية مثل هؤلاء الرعاه قائلاً: "وهم رعاة لا يعرفون الفهم (أش 56: 11)، ومرة أخرى يؤنبهم الرب قائلاً: "وأهل الشريعة لم يعرفونني" (أر 2: 8). لذلك يشكو الحق الإلهي من هؤلاء الرعاة لأنهم لم يعرفوه إذ لا أحد يفهم سمو خدمة القيادة إلا الذين عرفوه فالذين يجهلون ما هو للرب يتجاهلهم الرب كما يقول بولس الرسول: "ولكن أن يجهل أحد فليجهل" (1كو 14: 38).
إن عدم إستحقاق الراعي يكون في أغلب الأحيان موافقاً لعدم إستحقاق الرعية، فإذا كان الرعاة لم يملكوا نور المعرفة نتيجة لخطيئتهم الشخصية فإنه يتبع ذلك أن تعثر الرعية التي تتبعه بسبب جهلها حسب قصاص القضاء من أجل ذلك قال رب المجد يسوع "إن كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة" (مت 15: 14، لو 6: 39) وفي هذا قال صاحب المزامير متنبئاً "لتظلم عيونهم عن البصر وقلقل متونهم دائماً" (مز 69: 23). فالقادة يمثلون العيون لأنهم يقيمون في أعلى الأمكنة وقد أخذوا على عاتقهم توضيح الطريق أما الذين يتبعونهم وقد إرتبطوا بهم فهم يشبهون "المتون" فإن إظلمت العيون إنحنت المتون أيضاً، لأنه إن فقد القادة نور المعرفة سقط الذين يتبعونهم تحت ثقل خطاياهم.

الفصل الثاني
على الذين يختبروا في حياتهم ما تعلموه بالدراسة
ألا يقولا خدمة الرعاية

هناك من يفحصون الوصايا الروحية باجتهاد بكري ثابت لكنهم بسلوكهم يطئون على ما أدركوه بفهمهم إنهم يسرعون إلى تلقين كل ما تعلموه من الدراسة وليس من حياتهم العملية. وبذلك فهم يناقضون بسلوكهم ما يعلمونه بأفواههم.
وهكذا إذ يسير الراعي في الأماكن المنحدرة يتبعه القطيع فيسقط في وهدة الهلاك. إن الرب يحزن من معرفة الرعاة الردية فيقول على لسان النبي "أهو صغير عندكم أن ترعوا المرعى الجيد وبقية مراعيكم تدوسونها بأرجلكم وأن تشربوا من المياه العميقة والبقية تكدرونها بأقدامكم وغنمي ترعى من دوس أقدامكم وتشرب من كدر أرجلكم" (حزقيال 34: 18، 19).
ومن الواضح أنه عندما يرتوى الرعاة من سبيل الحق بفهمهم الصائب فانهم ينهلون مياهاً صافية نقية ولكنهم إذ يفسدون التأمل المقدس بحياتهم الشريرة فإنهم يكدرون المياه بأقدامهم. ومن البديهي أن الرعية ستشرب من هذه المياه الملوثة التي تعكرت من هذه الأقدام، ثم تمتنع عن تنفيذ التعاليم التي سمعتها لأنها تتمثل بالقدوة الشريرة التي تراها.
وبينما تتوق الرعية إلى فعل ما يقوله الرعاة فأنها تنحرف من جراء ما يفعلونه فتمتص الطين مع ما تتجرعه وكأنها تشرب من ينبوع ملوث. لهذا كتب النبي قائلاً إن الكهنة الأشرار قد صاروا فخاً لهلاك الشعب وأيضاً يقول الرب بالنبي بخصوص الرعاة "كانوا معثرة ثم لبيت اسرائيل" (حزقيال 44: 12).
ليس هناك من يلحق الأذى بالكنيسة أكثر من أولئك الذين لهم صورة القداسة ولقبها ولكنهم يتصرفون تصرفاً فاسداً. ومن الخطأ الفادح أن نعهد بمكانة الرعاية إلى شخص مقصر حيث أن الرعاية هي القدوة. وإن إساءة إختيار الراعي ينتج عنها عواقب وخيمة إذ أنه وهو خاطيء سيأخذ كرامة من أجل هذه المكانة التي وُضع فيها.
فليهرب كل إنسان غير مستحق من ثقل هذا الإثم العظيم ويتأمل مصغياً بأذني قلبه لهذا الصوت القائل "ومن أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين في فخير له أن يعلق في عنقه حجر الرحى ويغرق في لجة البحر" (مت 18: 6، لو 17: 1). إن حجر الرحي يرمز هنا إلى دوامة الحياة ولجة البحر تشير إلى الهلاك الأبدي، فمن الأفضل جداً أن يهلك إنسان علماني بمفرده لبس ثوب القداسة صورياً من أن يخلع الخادم على نفسه ذلك الثوب ويهلك الآخرين بقدوته الشريرة. وإني لمتيقن أن عقاب الجحيم سيكون أخف وطأة لو سقط هذا الإنسان فيه بمفرده دون أن يكون سبباً في سقوط الآخرين معه.

الفصل الثالث
أعباء الرعاية
عدم الإهتمام بالشدائد – الحذر من غرور النجاح

لقد قلنا هذا باختصار لتظهر كثرة أعباء الرعاية، لئلا يندس غير المستحق لهذه الخدمة المقدسة فيستعلى بدافع الرغبة في المجد فيقوده هذا إلى الهلاك، من أجل هذا يقول يعقوب في محبة أبوية محذراً "لا تكونوا معلمين كثيرين يا إخوتي" (يع 3: 1).
لأجل هذا فإن الوسيط بين الله والناس الذي يفوق في المعرفة والفهم كل الأرواح السمائية، والذي يحكم في السماء منذ الأزل قد هرب من قبوله مملكة أرضية لأنه مكتوب عنه "أما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويخطفوه ليجعلوه ملكاً إنصرف أيضاً إلى الجبل وحده" يو 6: 15. من منا يستطيع أن يملك تماماً على الناس بلا لوم مثل هذا الذي يدبر رعيته التي خلقها بذاته!! لكن يسوع أتى في الجسد ليس فقط لكي يخلصنا بآلامه بل ليعلمنا أيضاُ بحياته مقدماً مثالاً للذين يتبعونه لذلك رفض الملك وارتضى أن يذهب بإرادته إلى خشبة الصليب. هكذا هرب من المجد العظيم الذي قدم له واختار ألم الموت وذله لكي يشترك معه أعضاء جسده في الهروب من مجد العالم، فيتعلموا عدم الخوف من الشدائد وحب الضيقات من أجل الحق، والحذر من غرور النجاح لأن النجاح غالباً ما يدنس القلب بالمجد الباطل، أما الضيقات فتنقيه بالأحزان. في النجاح ينتفخ العقل وفي الضيقات تخمد نار العظمة. في النجاح يتناسى الإنسان حقيقة نفسه وفي الضيقات يعود الإنسان ولو مضطراً إلى نفسه ويعرف حقيقتها. في النجاح تحسب كل الأعمال الخيرة السابقة كلا شيء، أما في الضيقات فتذوب كل الذنوب حتى المزمن منها.
ومعلوم لدينا من خبرتنا العامة أنه في مدرسة الشدائد يعود القلب إلى تنظيم نفسه بنفسه. وعلى العكس عندما يبلغ المرء مركزاً عالياً فإنه على التو يتغير القلب ويتعظم.
هكذا تحقق شاول في أول الأمر أنه غير مستحق فهرب من أمجاد الملك لكن بعد أن تولى الملك إنتفخ بالكبرياء (1صم) فتركه صموئيل وتخلى عنه لأنه إشتهى مجد الناس ورضائهم. وأيضاً داود الذي كان مقبولاً في كل أعماله أمام الله الذي إختاره، بمجرد تحرره من إلتزاماته إنطلق في أوهامه الفاسدة في عنف وقسوة فقتل الرجل!! وضعف بالزنا إذ إشتهى المرأة (2 صم 11، 20) تعلم ياأخي من داود الذي بعطفه أبقى على حياة الشرير شاول، ولكنه بعد أن ملك لم يتردد في قتل البار أوريا الحثي.
حقاً لقد رفض أولاً أن يقتل الشرير الذي طالما إضطهده لكنه بعد أن ملك قتل قائده المُخلص وهو يعلم مع ذلك الأضرار التي ستحوق به.

الفصل الرابع
الإنشغال بأمور الرعاية الكثيرة يشتت تركيز العقل

عندما ينشغل الراعي بأعباء الرعاية، فإنه غالباً ما تتملكه الحيرة من تعدد مسئولياتها. فعندما يتشتت فكره في إهتمامات كثيرة وينشغل بها فإنه يجد نفسه غير أهل لواحدة منها. لذلك ينبهنا يشوع بي سيراخ محذراً: "يا بني لا تكن أعمالك في أشياء كثيرة" (يشوع بن سيراخ 11: 10).
إن العقل لا يستطيع أن ينحصر في متابعة شيء إذا كان مشتتاً بين أمور كثيرة، وعلى ذلك فإذا إنشغل في البحث عن إهتمامات دخيلة عليه فإنه في الواقع يفقد إهتمامه الثابت بباطنه. ومن العجيب أن يعرف العقل كيف ينظم الأمور الخارجية ويوزع إهتمامه بين كثير منها في حين أنه يجهل حقيقة نفسه. فهو إذ ينشغل بالأمور الخارجية فوق ما ينبغي يصبح كأنه في رحلة طويلة إنهمك فيها فنسي هدفها. مثل هذا العقل يكون بعيداً كل البعد عن فحص ذاته حتى أنه لا يشعر بما يقاسيه من أذى ويما يرتكبه من أخطاء جسيمة. إن حزقيا الملك لم يتحقق أنه قد أخطأ حين كشف للغرباء الذين أتوا إليه ذخائر بيته من ذهب وفضة وإذ ظل أنه فعل حسناً وقع تحت غضب الديان وعوقب كل أبنائه الذين خرجوا من صلبه (أش 29: 1 – 7).
وهكذا عندما يكون لدى الراعي إمكانيات وفيرة فإنه غالباً ما يقوم بأعمال تعجب منها الرعية لمجرد صنعها، الأمر الذي يؤدي به إلى انتفاخ عقله بأوهام تثير غضب الديان مع أنه لم يصدر عن هذا الراعي في الظاهر أي فعل شرير. لكن الذي يدين والذي يدان يعرفان ما في الباطن فعندما نصنع التعدي في قلوبنا لا يعرف الناس عن ذلك شيئاً لكن الديان شاهد على آثامنا.
إن ملك بابل لم يكن متكبراً لأنه تفوه فقط بأقوال التشامخ، فلقد سمع من فم النبي حكم الرفض من قبل الرب قبل أن يبوح بكبريائه. وقد تنقى حقاً من خطية الكبرياء عندما إعترف أمام كل الشعب بالله الواحد الجبار الذي أغضبه. ثم بعد ذلك إذ إرتفع بازدهار قوته وسُر بعظمة ما حققه، تعالى بغروره الذاتي عن كل الآخرين ثم إذ إنتفخ بالكبرياء قال: "أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها لبيت الملك بقوة اقتداري وبجلال مجدي" (دا 4: 30). وهكذا وقع تحت طائلة الغضب الإلهي الذي أثارته كبرياؤه الكامنة في داخل نفسه لأن الديان العادل يرى أولاً ما في الخفاء ثم يوبخ علانية لذلك أحاله الله إلى حيوان أبكم وعزله عن مجتمع الإنسان وأسكنه مع الوحوش بعد أن سلبه عقله. إن من يرفع ذاته فوق كل الناس يفقد إنسانيته حسب عدالة الحكم ووضوحه وإننا إذ نورد هذه الأمثلة لا نلقي اليأس في قلوب المقبلين على هذه الخدمة بل نحصن القلوب البسيطة من إشتهائها لئلا يتجرأ الفاسدون فيغتصبون المراكز السامية، ويحاول الذين يتعثرون في الأراضي السهلة أن يتسلقوا الرماد والقفار.

الفصل الخامس
عن أصحاب المراكز السامية الذين يمكنهم إفادة الآخرين عن طريق الاقتداء بفضائلهم لكنهم يهربون من الخدمة لأجل سلامهم الشخصي

يوجد من الناس من أعطوا فضائل سامية وتميزوا بمواهب عظيمة لتدريب الآخرين، هؤلاء الذين لم يتدنسوا في حبهم للطهارة وتقووا بقوة العقة، وشحنوا بطعام المعرفة وتواضعوا بصبر مقاسين آلاماً كثيرة، ثابتين في حصنهم الروحي، مترفقين بشفقتهم على ألاخرين، أشداء غير متهاونين في العدالة، هؤلاء برفضهم مراكز الرعاية عندما يدعون إليها يحرمون أنفسهم من هذه المواهب التي نالوها لا لأنفسهم فقط بل من أجل الآخرين أيضاً. وإذ ينظر هؤلاء إلى مصلحتهم الشخصية، لا إلى مصلحة الآخرين فانهم يفقدون مثل هذه الأشياء النافعة رغبة منهم في الاحتفاظ بها لأنفسهم فقط. لذلك قال الحق الإلهي لتلاميذه "لا يمكن أن تخفى؟؟ مدينة موضوعة على جبل ولا يوقدون سراجاًويضعنه تحت المكيال بل على المنارة فيضيء لجميع الذين ي البيت" (مت 5: 14). ولذلك قال رب المجد أيضاً لبطرس "يامعان ين يونا أتحبني" وللوقت عندما أجابه سمعان أنه يحبه أخبره يسوع قائلاً "إن كنت تحبني أرعى غنمي" (يو 21: 17). إذاً فإن كانت خدمة الرعاية هي اعلان عن الحب فإن الذين يرفضون رعاية قطيع الرب وقد إشتملوا بالفضائل يوصمون بعدم حبهم لراعي الرعاة الأعظم. لذلك قال بولس الرسول "إن كان واحد قد مات لأجل الجميع فالجميع إذاً ماتوا وهو مات لأجل الجميع لكي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام" (2 كو 5: 14، 15).
وهكذا قال موسى أن يأخذ الأخ الذي على قيد الحياة زوجة أخيه الذي مات بغير نسل ويُقيم نسلاً لأخيه فإن رفض أن يأخذها تبصق في وجهه ويخلع الوصي أحد نعليه ويدعون بيته بيت مخلوع النعل (تث 25: 5 – 10),
يسوع هو أخونا الذي مات وقال بعد ما ظهر في مجد القيامة "إذهبا قولا لإخوتي" (مت 28: 19). المسيح مات ولكن لم يكتمل بعد عدد البنين المختارين. وكما كان الأخ يأخذ أمرأة أخيه الميت هكذا فمن الصالح أن تسند رعاية الكنيسة المقدسة إلى أصلح الناس لكي ما يدبروها حسناً فإذا لم يقبل فإن العروس زوجة الأخ تبصق في وجهه لأن كل من لا يعني بمساعدة الآخرين بما له من مواهب فإن الكنيسة المقدسة ترفضه أيضاً وتخلع أحد نعليه فيدعي بيته بيت مخلوع النعل، لأنه مكتوب "حاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام" (أفس 6: 15) وهكذا يوجد كما قلنا أناس أعطوا مواهب عظيمة لكهنهم من أجل حبهم للتفرغ ومتابعة التأمل يرفضون خدمة الآخرين بالوعظ والإرشاد ويحبون أن يعتزلوا في هدوء راغبين الوحدة والتأمل. والآن إن حكمنا على سلوكهم بدقة فإننا نجدهم بالتأكيد مقصرين في حق خدمة الشعب. إذ بأي ضمير يفضل ذو المواهب خلوته الخاصة على منفعة الآخرين، بينما هو يعلم أن الابن الوحيد الذي للآب المتعالى قد نزل من حضن أبيه إلى وسطنا ليصنع خلاصاً لكثيرين.

الفصل السادس
الذين يهربون من أعباء الرعاية بسبب التواضع يكونون بالحقيقة متضعين عندما لا يقاومون الدعوة الإلهية

بعض الناس يهربون من أعباء الرعاية بسبب الاتضاع الحقيقي إذ أنهم لا يشعرون بأفضليتهم عن غيرهم بل يعتبرون أنفسهم أقل الجميع.
وتواضعهم هذا يكون حقيقياً في عيني الرب عندما يكون متحلياً بفضائل أخرى، فلا يكون هذا التواضع سبباً لرفضهم لقيام بما يمكنهم تأديته على خير وجه لأن الذي يعلم أن إرادة العلي قد أقامته راعياً ومع ذلك يرفض هذه الإرادة لا يكون متواضعاً حقاً. لكن إن وضعت عليه أعباء الرعاية وله من المواهب ما يستطيع به أن ينفع الآخرين، فعليه أن يخضع لأوامر الله ويبتعد عن خطية العناد ويهرب منها بقلبه ويقدم ذبيحة الطاعة حتى ولو كانت ضد رغبته. (1)
________
(1) في هذا يصف القديس إغريغوريوس الناطق بالإلهيات موقفه حائراً بين أمرين: بين خوفه من مسئولية الرعاية وبين عصيانه للدعوة الإلهية بالهروب فيقول: "ولكي نميز بوضوح بين الموقفين نقول أنه من جهة الخوف من هذه الخدمة فإن لنا ملاذاً في ناموس الطاعة، إذ الله بصلاحه ينظر إلى إيماننا ويجعل من الذين يتكلون عليه ويضعون فيه كل آمالهم رعاة مكملين. لكني لا أعرف شيئاً يلجأ إليه الإنسان في حالة عصيانه للدعوة. أخشى أن يسمع ذلك الإنسان هذا الصوت "أما دمه فمن يدك أطلبه" (خر 3: 18).

الفصل السابع
يمدح بعض الناس الذين يشتهون خدمة التعليم ويمدح البعض الآخر الذيق يساقون إليها مجبرين

يشتهي بعض الناس أحياناً منصب المُعلم ويمدحون على ذلك. والبعض يساقون إليها مجبرين ويمدحون أيضاً لذلك ويظهر هذا بوضوح عندما نتأمل حالة نبيين أحدهما يقدم نفسه من تلقاء ذاته لرسالة التعليم بينما يمانع الآخر عن خوف، فمثلاً عندما سأل الرب عن الذي سيرسله قدم أشعياء نفسه باختياره قائلاً "هانذا إرسلني" (أش 6: 8). بينما كان أرميا على العكس يمانع بوداعته في أن يجبر على الذهاب قائلاً "آه يا سيدي الرب أني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد" (أر 1: 6).
تأمل كيف أن هذين النبيين صدر عنهما قولان مختلفان مع أن هذين القولين لم ينبعثا من ينابيع حب مختلفة. فهناك ناموسان للحب، واحد منهما مبني على حب الله والآخر على حب القريب. أراد إشعياء الحياة العاملة في خدمة التعليم مدفوعاً إلى ذلك برغبته في إفادة أقربائه. أما إرميا فقد إشتهى أن يلتصق بحب جابله في حياة التأمل. إن الأمر الذي سعى إليه الواحد هرب منه الآخر. فواحد يخشى لئلا يفقد بالتعليم فوائد التأمل الهاديء والآخر يخشى نتيجة لعدم التعليم أن يصيبه الأذى لقلة العمل المتواصل.
والآن لنفهم جيداً في كلتا الحالتين أن الذي مانع لم يقاوم تماماً والذي قبل الرسالة قد تظهر قبلاً بحمرة من على المذبح (إش 6: 6). إن الذين لم يتطهروا لا يحق لهم أن يقوموا بهذه الخدمة المقدسة. والذين قد تطهروا بالنعمة الإلهية عليهم ألا يقاوموا الدعوة بكبرياء تحت ستار الاتضاع.
وحيث أنه من الصعب أن يعرف الإنسان ما إذا كان قد تطهر أو لم يتم تطهيره بعد فمن الأسلم له أن يرفض خدمة التعليم، لكن كما قلت لا يحق أن يرفض باصرار إذا أعلنت الإرادة الإلهية التي يجب أن تنفذ. وقد إلتزم موسى بالأمرين السابقين، فبينما لم يقبل رعاية شعوب كثيرة إلا أنه قد أطاع لأنه سيكون حتماً متكبراً لو تعهد قيادة هذا الشعب الغير محصى بدون خوف، كما أنه سيكون أيضاً متكبراً لو أنه رفض أمر الخالق ومن ثم كان متواضعاً في كلنا الحالتين، وفي كليهما كان مطيعاً أعني في عدم رغبته في حكم الشعب ناظراً إلى نفسه فقط وفي قبوله الحكم معتمداً على قوة الله الذي دعاه.
ليفهم إذاً المندفعون، من مثل هذه الأمثلة كم يعظم ذنبهم إذ هم إندفعوا وراء رغباتهم الشخصية ولم يرهبوا خدمة الرعاية بينما يرون قديس الله يرفضون قبول رعاية الشعب وقد دعاهم الله نفسه. لقد إرتعب موسى مع أن الله قد شجعه ومع ذلك يسعى ضعفاء الناس وراء هذه الخدمة. ومن العجيب أن الذين على وشك السقوط تحت ثقل أعمالهم يرغبون في إغراق أنفسهم بوضع أحمال الآخرين على أكتافهم!! والذين قد وهنوا تحت حمل أعبائهم يضيفون أعبائهم أحمالاً أخرى.

الفصل الثامن
عن الذين يشتهون الرفعة ويحورون آية الرسول لتخدم جشعهم

وكما يحدث كثيراً، أن الذين يشتهون الرفعة يطلبون سنداً لجشعهم فيستغلون آية الرسول القائلة "إن إشتهى أحد الأسقفية فيشتهي عملاً صالحاً" (1تي 3: 1) فبينما يمدح الرسول هذه الرغبة نجد أنه على الفور يشترط بهذه الرغبة وهذا الشوق شروطاً تبعث فينا الرهبة عندما يقول في حزم "فيجب أن يكون الأسقف بلا لوم" (1تي 3: 2) وإذ يسترسل في إحصاء الفضائل الضرورية فأنه يشرح معنى هذه الكلمة "بلا لوم" فهو يقر الرغبة لكنه يحذر الراغبين ويوصيهم وكأنه يعلن قائلاً "أنني أمتدح ما تبتغونه لكن لتؤهلوا أنفسكم أولاً لهذه الخدمة، لئلا إذا أهملتم الاهتمام بلياقتكم تصيرون مبغضين وملامين أكثر لأنه في هذا تسرعون بالظهور أمام الجميع على برج الشرف.
إن بولس الرسول أستاذ فن الرعاية العظيم يشجع رعاياه بتعزيز رغبتهم إلى سلوك حياة الأسقف المنشودة. ومع ذلك علينا أن نلاحظ أنه قال هذا في وقت كان يساق فيه كل من أقيم على رعاية الشعب إلى تعذيب الشهادة. لذلك كان كل من يبتغي الأسقفية يستحق حقاً المديح، إذ أنه لم يكن هناك أدنى شك في أن الأسقف سيصادف في خدمته أقصى الضيقات. لهذا السبب أعتبرت خدمة الأسقف عملاً صالحاً عندما قيل "إن إشتهى أحد الأسقفية فيشتهي عملاً صالحاً".
لذلك إن إشتهى أحد الأسقفية – لاسعياً وراء خدمة الأعمال الصالحة – بل وراء مجد هذه الرتبة فإنه يقيم الشهادة ضد نفسه وهو لا يفشل فقط في أن يرغم نفسه على حب هذه الخدمة بل أنه يكون أيضاً جاهلاً إذا هو سعى وراء السيادة الرعوية ومنى نفسه باخضاع الآخرين في هواجس فكره الخفيه، وتلذذ بسماع مديحه، وشعر وكأن قلبه قد إنتفخ بالمجد. وفرح لوفرة ثروته. إن هذا الإنسان إنما يسعى وراء أمجاد العالم تحت ستار كرامة الخدمة التي كان ينبغي أن تحطم هذه الأمجاد، وإذ يفكر العقل في إغتصاب هذه الأسقفية التي هي أقصى درجات الاتضاع لكي يغذي كبرياءه فإنه يفسد أهم الخواص الداخلية (أي التواضع) لما يشتهيه خارجياً (أي الأسقفية).


الفصل التاسع
الذين يسعون وراء الرفعة يخدعون أنفسهم في أغلب الأحيان بوعود وهمية للقيام بأعمال صالحة

كثيراً ما يضع الذين يرغبون خدمة التعليم الرعوي نصب أعينهم القيام بأعمال صالحة معينة. ومع أنهم يسعون إليها لخدمة كبريائهم إلا أنهم يتوهمون أنهم سيصنعون أعمالاً عظيمة حيث أن الدوافع الكامنة في أعماقهم هي شيء وما يظهر عانية هو شيء آخر. وغالباً ما يخدع العقل نفسه بأوهام وتخيلات ويبدو وكأنه يحب الأعمال الصالحة حقاً بينما هو في الحقيقة يمقتها، ويتراءى يزهد في الأمجاد العالمية بينما هو في الحقيقة يشتهيها فشتهي الرعاية ويخشى طلبها، ولكن حالما يقتنيها يتجاسر ويعتقد على الفور إنه باستحقاق إقتناها. وإذ يتلذذ العقل بأساليب عالمية بمجد هذه الخدمة فأنه يتخلى بإرادته عن أفكارها الروحية. ما أحوج الإنسان عندما يحلق واهماً في غير مستوياته العادية أن يرجع إلى نفسه فينظر إلى أعماله السابقة عندما كان من أفراد الرعية وتحت سلطان. عندئذ سيسأل نفسه على الفور وقد صار راعياً ذا سلطان هل يستطيع إنجاز ما كان يقصد أن يفعله أم لا؟
إن الإنسان لا يقدر حتماً أن يتعلم الاتضاع وهو في موضع الرئاسة إذا لم يكن قد أمسك عن الكبرياء عندما كان مرؤوساً.
والذي يلهث وراء المديح وهو بعيد عنه لا يعرف كيف يصده وهو قريب منه.
كما أن الذي لم تكفه موارده وهو يعول نفسه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتحقق له الكفاية وهو يقول كثيرين.
لذلك فليحاول كل إنسان أن يكتشف من ماضيه أي نوع من الناس هو حتى لا تخدعه هواجس فكره عندما يلتمس الرفعة.
ولكن غالباً ما يهجر الإنسان الأعمال الصالحة التي كان يعملها قبل إنشغاله بالخدمة. إن القبطان الذي يفتقر إلى المهارة يستطيع أن يقود السفينة في بحر هادىء لكن في وسط البحر المضطرب بالأمواج العاصفة ينزعج حتى أمهر القباطنة. وما السلطة التي للمناصب السامية إلا عاصفة تهب على العقل حيث تهتز سفينة القلب على الدوام بأعاصير الأفكار وتندفع هنا وهناك بغير توقف حتى تسقط في التعدي بالقول والفعل فتتحطم عند إصطدامها بالصخور.
أي طريق نسلكه إذاً؟ وأي مسلك نتخذه في وسط هذه المخاطر إن لم يتعهد أصحاب الفضيلة خدمة الرعاية ولو مجبرين، ويبعد الذين تعوزهم الفضيلة عن الرعاية ولو مجبرين أيضاً.
ولكن إن رفض الأول باصرار فليحذر من أن يخبىء الوزنات التي أعطيت له في منديل فيدان لأجل ذلك فهو إذ يخبىء هذه الوزنات فإنه يطرحها في غفلة وبلادة قلب. أما الذي يشتهي الرعاية ولا يستحقها فليحذر لئلا – بقدوته الشريرة متشبهاً بالفريسيين – يكون حجر عثرة للذين يجاهدون لدخول ملكوت السموات هؤلاء كما يقول عنهم السيد المسيح "لا يدخلون ولا يدعون الداخلين يدخلون" (مت 23: 13). وليدرك أيضاً أنه باختياره أسقفاً يكون قد أخذ على نفسه الاهتمام بالرعية فيكون كالطبيب بالنسبة للمريض، لذلك إن كانت أوجاعه لا تزال حية فيه فبأي جسارة إذاً يشرع ليخدم المتألمين بينما هو يحمل قرحة على جبينه!!!

الفصل العاشر
أي الناس ينبغي أن يدعى للرعاية؟

ينبغي أن يكون الإنسان المدعو للرعاية مثالاً في حياته ويميت أهواء جسده ليسلك من الآن حياة روحية تاركاً وراءه أمجاد العالم، غير هياب بالضيقات بل راغباً في الغنى الداخلي ولا ينبغي أن يكون رجلاً ذا جسد شرير يعطله عن الوصول إلى أهدافه فلا يشتهي عكس ما يهدف هو إليه، ولا تتمرد روحه على هذه الأهداف أنه لا يشتهي أمتعة الآخرين بل يعطي مما له بسخاء وقلبه العطوف يجعله يغفر سريعاً، لكنه لا يحيد عن الصواب لئلا يغفر ما لا ينبغي أن يغتفر وفي نفس الوقت يحزن على تعديات الآخرين وكأنه قد إرتكبها، وبقلبه العطوف يرق لضعفات الآخرين، ويسر إذا كانت أعمال رعيته صالحة كما لو كان هو الذي تقدم ونما. ويكون في كل أعماله قدوة تدفع الآخرين حتى لا يكون هناك ما يشين سلوكه في نظرهم. وعليه أن يرتب حياته بحيث يستطيع أن يرى جفاف قلوب الآخرين من نبع التعاليم. فهو باختباراته العملية في الصلاة قد تعلم من قبل أن ينال من الرب كل ما يطلبه. وكأنه قد قيل له خصيصاً بصوت التجربة "نستغيث فيقول هأنذا" (إش 58: 9).
فإذا تصادف أن تقدم إلينا شخص أخطأ في حق إنسان عظيم لا نعرفه راجياً منا أن نشفع فيه لدى هذا الإنسان العظيم، فأننا سنجيب في الحال بأننا لا نستطيع أن نتشفع له لأنه لا تربطنا بهذا الرجل العظيم معرفة. فإذا كان هذا قد إستحى أن يشفع عند إنسان لا يعرفه فكم وكم تكو جسارة ذاك الذي يتقدم ليشفع للشعب أمام الله دون أن يتأكد أنه يتمتع بنعمة الله!! أو كيف يسأل الإنسان مغفرة الآخرين وهو لا يعرف إن كان قد تصالح هو مع الله أم لا!!
بقى في هذا الموضوع سبب آخر يستدعي الخوف وهو أن هذا الذي أؤتمن على تهدئة غضب الله قد يثير هذا الغضب بأفعاله الأثيمة. فكلنا يعلم جيداً أنه إذا أرسلنا إنساناً مرفوضاً ليشفع فينا فإن غضب الله الذي أخطأنا في حقه يزداد في حموه.
ل1لك فليحذر كل المقيدون بشهوات العالم من أن يسعوا للتمتع بأمجاد هذه الرتبة فيثيرون غضب الديان العادل ويكتبون لشعوبهم الدمار.


الفصل الحادي عشر
أي الناس ينبغي أن يبتعد عن مسئولية الرعاية؟

ليعرف الإنسان إذاً قدر نفسه حتى لا يتجرأ أحد فيأخذ لنفسه منصب الرعاية بينما لا تزال الرذيلة تسيطر عليه وتتسبب في إذانته. فإن الذي أفسدته الآثام لا يجب أن يشفع من أجل آثام الآخرين.
لذلك قال الصوت الإلهي لموسى "كلم هارون قائلاً: إذا كان رجل من نسلك من أجيالهم فيه عيب فلا يتقدم ليقرب خبز إلهه لأن كل رجل فيه عيب لا يتقدم. لا رجل أعمى ولا أعرج ولا أفطس ولا زوائدي ولا رجل فيه كسر رجل أو كسر يد ولا أحدب ولا أكشم ولا من في عينه بياض ولا أجرب ولا أكلف ولا مرضوض الخصى" (21: 17 – 21).
الأعمى...
الأعمى هو الذي لا يعرف ضياء التأمل السمائي. فالذي أدركته ظلمة هذا العالم الحاضر لا يستطيع أن يدرك النور الآتي لأنه لا يشتاق إليه. لذلك فهو لا يعرف أن يخطو أو إلى أين يمضي ومن ثم قالت حنة النبية "أرجل أتقيائه يحرس والأشرار في الظلام يصمتون" (1صم 2: 9).
الأعرج...
والأعرج هو الذي يعرف حقاً الطريق لكنه لا يستطيع أن يسير فيها بثبات بسبب نفسه العليلة ولأنه لا يستطيع أن يرتفع بعاداته القبيحة إلى مستوى الفضيلة. فإنه لا يملك القوة ليسلك تبعاً لإرادته. لذلك قال القديس بولس الرسول "قوموا الأيادي المسترخية والركب المخلعة واصنعوا لأرجلكم مسالك مستقيمة لكي لا يعتسف الأعرج بل بالحري يشفي" (عب 12: 12 – 14).
الأفطس...
الأفطس هو الذي يعجز عن التمييز، فنحن نميز بحاسة الشم الروائح الذكية من العفنة. إن هذه الحاسة تشير حقاً لحاسة التمييز التي بها نختار الفضيلة ونرفض الرذيلة. لذلك قيل في مدح الكنيسة العروس "أنفك كبرج لبنان" (نش 7: 4) فالكنيسة المقدسة تدرك تماماً بالتمييز التجارب التي تثار عليها بأسباب متنوعة، وتعرف مقدماً – من فوق برجها – معارك الشر المزمعة أن تحدث.
الزوائدي...
بعض الناس ينشغلون دائماً بأسئلة فضولية أكثر من اللازم وهم يعترفون أنهم أغبياء ولكنهم يفرطون في الثقة بنفوسهم لذلك أضاف الكتاب قائلاً: "ولا زوائدي" ومن الواضح أن الأنف الكبير المنحني يعبر عن إفراط في التمييز وهذا الإفراط يشوه كمال هذه الحاسة وجمالها.
كسر الرجل وكسر اليد...
الرجل الذي فيه كسر الرجل وكسر اليد هو الذي لا يستطيع مطلقاً أن يسير في طريق الله وقد تجرد تماماً من نصيب الأعمال الصالحة. في هذا يختلف عن الأعرج الذي يمكنه – ولو بصعوبة – الإشتراك في الأعمال الصالحة أما المكسور فقد تجرد منها تماماً.
الأحدب...
والأحدب هو الذي يرزح تحت ثقل الهموم العالمية فلا يمكنه أن يرفع عينيه إلى ما هو فوق بل يثبتهما على موطىء الأقدام حيث أدنى الأشياء. وهو إن سمع أخباراً سارة عن مسكن الأب السمائي فإنه – تحت ثقل عاداته الشريرة – لا يستطيع أن يرفع محيا قلبه ولا يستطيع حتى أن يرتفع بفكره الذي ربطته الهموم العالمية إلى الأرض. هذا الإنسان يقول عنه داود النبي المرتل "لويت انحنيت إلى الغاية" (مز 38: 6). ويقول الإله المتجسد عن هؤلاء رافضاً آثامهم "والذي سقط بين الشوك هم الذين يسمعون ثم يذهبون فيختنقون من هموم الحياة وغناها ولذاتها ولا ينضجون ثمراً" (لو 8: 14).
الأكشم...
أما الأكشم أو من على عينيه غشاوة فهو الذي بنظرته الطبيعية يضيء بمعرفة الحق لكن عينيه قد إظلمت بالأعمال الجسدية، فالعين التي عليها غشاوة تكون حدقتها سليمة لكن الجفون تضعف وتنتفخ بسبب الإفرازات وتذبل بسبب سيل الدموع فتضعف حدقة العين. إن البعض تضعف بصيرتهم بسبب الحياة الجسدية. هؤلاء كان لهم قدرة تمييز الخير لكن بصيرتهم إظلمت بسبب إعتيادهم فعل الإثم. الذي على عينيه غشاوة هو الذي كان له بالفطرة فطنة الحواس لكنه شوهها بحياته الفاسدة. لمثل هذا يقول الملاك "كحل عينيك بكحل لكي تبصر" (رؤ 3: 18). إن كحلنا عيوننا بكحل لنبصر فإننا نقوي عيون أفهامنا بأدوية الأعمال الصالحة لتبصر بريق النور الحقيقي.
من في عينه بياض...
أما الذي في عينه بياض فهو الذي حرم من معاينة النور الحقيقي بسبب عماه مدفوعاً بادعاء الحكمة والصلاح. إن حدقة العين تبصر إن كانت سوداء لكن إن كان بها بياض فهي لا تنصر شيئاً. فمن الواضح أنه حينما يدرك الإنسان أنه أحمق وأثيم فإنه يفهم بقوى عقله مدى وهج الضياء الجاخلي، لكنه إذ يعزى إلى نفسه إشراق الحكمة والصلاح فإنه يحجز عنها ضياء المعرفة الفائق، أما بالنسبة لكبرياء مجده الذاتي فإنه يعبث إذ يحاول إدراك بريق النور الإلهي فقد قيل عن البعض بينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء" (رو 1: 22).
الأجرب...
أما الإنسان الأجرب فهو الذي يسوده دائماً بطر الجسد. ففي حالة الجرب تنتثر الحرارة الداخلية على الجلد وهذه الحالة تمثل الدعارة تماماً. وهكذا عندما يترجم إغراء القلب بالأفعال فإننا نستطيع أن نقول إن الحرارة الداخلية تنتثر كما ينتثر الجرب على الجلد، أما الأذى الظاهر الذي يلحق بالجسد فإنه يطابق هذه الحقيقة. إنه كما أن الشهوة إذا لم تخضع في الفكر فإنها تسود بالفعل. لذلك كان بولس مهتماً بتطهيرها كما لو كانت جرباً على الجلد فقال "لم تصبكم تجربة إى بشرية" (1 كو 10: 13). وكأنه يريد أن يوضح أنه كبشر لا بد أن نقاسي من تجارب الفكر ولكن إن تغلبت علينا في وسط حربنا معها واستقرت في قلوبنا فإن هذا يكون من الشيطان.
الأكلف...
أما الأكلف فقد أتلف الطمع عقله فإن لم يضبط هذا الطمع في الأمور الصغيرة فإنه سيسود على حياته كلها. إن الكلف يغزو الجسد لكنه لا يسبب آلاماً وينتشر على المريض دون أن يضايقه، لكنه يشوه جمال الأعضاء وهكذا الطمع أيضاً إذ يملأ عقل ضحيته بالسرور إلا أنه ينجسه. وإذ يضع أمام الفكر أشياء ليقتنيها فإنه يثيره بالبغضة والعداوة. أما أنه لايسبب آلاماً فهذا لأنه يعد النفس العليلة بأشياء كثيرة وفيرة ثمناً للخطية. أما ان جمال الأعضاء يتشوه فهذا لأن الجشع يشوه جمال الفضيلة. أي أن الجسد كله يفسد حقاً إذا ملأت الرذائل نفس الإنسان لذلك يقول القديس بولس محقاً "لأن محبة المال أصل لكل الشرور" (1تي 6: 10).
مرضوض الخصى...
أما مرضوض الخصى، مع أنه لم يفعل النجاسة إلا أنه يرزح تحت نير التفكير الدائم فيها بإفراط، ومع أنه لم يتدنس أبداً بالفعل إلا أن قلبه أفتتن يلهو الدعارة دون أي وخز للضمير. إن مرض إرتضاض الخصية يحدث نتيجة دخول سائل داخلي في الخصية فيسبب مضايقات وتورم معيب. فمرضوض الخصى إذاً هو الذي يترك لفكره العنان في الأمور التي تحرك الشهوة وبذلك يحمل في قلبه حملاً دنيئاً لا تستطيع نفسه أن تلقيه عنها وهو يفتقر في نفس الوقت إلى القوة ليرتفع بنفسه إلى التدرب العلني على الأعمال الصالحة إذ هو يرزح تحت ثقل أعماله الفاضحة الخفية.
إذاً فليمتنع كل من به إحدى هذه العيوب التي سبق ذكرها عن تقديم خبز الرب لأنه لا يستطيع إنسان أن يكفر عن ذنوب الآخرين مادامت نقائصه الشخصية تملك عليه.
والآن إذ أوضحنا في هذه العجالة كيف ينبغي على الأكفاء أن يتعهدوا تدبير الرعاية وكيف ينبغي على غير الأكفاء أن يرتعبوا منها ويتجنبوها. فإننا سنوضح الآن كيف ينبغي على الذين نالوا هذه الخدمة باستحقاق أن يسلكوا فيها.

الباب الثاني


حياة الراعي

الفصل الأول
السلوك الذي يجب أن يتحلى به الراعي

ينبغي أن يسمو سلوك الأسقف على سلوك الرعية، كما تتميز حياة الراعي عن قطيعه. فالذي يستحق أن يدعي راعياً يجب عليه أن يقدر كم هو ضروري بالنسبة له أن يحيا حياة صالحة لذلك عليه أن يكون:-
X طاهر الفكر.
X قدوة في سلوكه.
X حكيماً في صمته نافعاً في كلامه.
X صديقاً عطوفاً لكل إنسان – متعمقاً في التأمل أكثر من الجميع.
X رقيقاً متواضعاً لمن يحيون حياه صالحة – متأهباً لنصرة التقوى ضد تعديات الخطاة.
X غير مهمل للحياة الداخلية لانشغاله بالحياة الخارجية ولا مهمل للخارجية في غمرة انشغاله بما هو للداخل.

ولنبدأ الآن بشرح هذه النقاط بالتفصيل بعد أن أوردناها بإيجاز.

الفصل الثاني
ينبغي أن يكون طاهر الفكر

ينبغي أن يكون الراعي طاهر الفكر دائماً لكي لا تستطيع الخطية أن تدنسه وهو الذي أخذ على عانقه أن يعمل على تطهير قلوب الآخرين من الدنس. فاليد التي تريد أن تزيل القذارة عن الآخرين ينبغي أن تكون هي نفسها نظيفة، حتى لا تزيد كل ما تلمسه قذارة بما علق بها من أوساخ. لذلك يقول النبي "تطهروا يا حاملي آنية الرب" (أش 52: 11). فالذين يحملون آنية الرب هم الذين أخدوا على عاتقهم أن يجتذبوا نفوس الذين حولهم إلى النعيم الأبدي معتمدين في ذلك على قدوتهم الصالحة. لذلك فعلى المسئولين عن حمل هذه الآنية الحية إلى معبد الأبدية، أن ينظروا باهتمام إلى أي مدى يجب أن يتطهروا. لهذا السبب أمر الرب بأن تثبت صدرة القضاء بأربطة على صدر هارون مشيراً بذلك إلى أن قلب الكاهن لا ينبغي أن تشغله أفكار دنسه ولكن ينبغي أن يحكم تفكيره العقل السليم، وأنه لا يجب أن يتأمل في أفكار غير حكيمة ولا غير نافعة، وهو الذي يجب عليه – كقدوة للآخرين أن يظهر يحياته المتزنة ما هو عليه من رجاحة عقل. ومما يقترن ذكره بصورة القضاء هي أن أسماء أسباط إسرائيل الاثنى عشر كانت تكتب عليها. فإن حمل أسماء الآباء مكتوبه على الصدر باستمرار تجعل الكاهن دائم التفكير في حياة الذين سبقوا، عندئذ يسلك الكاهن بلا لوم في أثر خطوات الآباء القديسين الذين سبقوه متأملاً حياتهم مبتعداً عن الخيالات الباطلة، لئلا يخطوا خطوة غير لائقة. وفضلاً عن هذا فصدرة القضاء قد صممت بهذه الطريقة لأن الراعي ينبغي عليه دائماً أن يميز الخير من الشر وأن يكون له القدرة على الفحص بتدقيق في كل ما هو مناسب في ذاته ولمن ومتى يكون مناسباً.
ولأنه لا يجب عليه أن يبحث عما لنفسه بل أن ينظر إلى صالح رعيته على أنه منفعه له، لذا كتب في هذا الشأن "وتجعل في صدرة القضاء الأوريم والتميم لتكون على قلب هرون عند دخوله أمام الرب، فيحمل هرون قضاء بني اسرائيل على قلبه أمام الرب دائماً" (خر 28: 30).
وحمل الكاهن لقضاء بني اسرائيل على صدره في حضرة الرب، يعني أنه يفحص أحوال رعيته طبقاً لرأي الديان العادل ولايسمح لأي فكر جسدي بالتدخل فيما يقوله في بيت الله، وذلك لئلا تجعله الأحقاد الشخصية يقسو في الاصلاح وبينما يظهر الراعي تحمسه ضد تعديات الآخرين يجب أن يعاقب نفسه على أخطائه الشخصية حتى لا تفسد إرادته الشريرة نزاهة حكمه، أو يشوه التسرع في الغضب هذا الحكم.
وعندما ينظر الراعي إلى الرهبة التي يبعثها ذلك الذي يحكم كل المخلوقات الذي هو الديان الأعظم لا يملك إلا أن يحس بالرهبة وهو يحكم رعاياه وبينما تعمل هذه الرهبة على إبقاء فكر الراعي متواضعاً. فهي في الوقت نفسه تطهره حتى لا يصاب بالكبرياء الروحي أو يفسد بالذات الجسدية أو تطغي عليه الأفكار الشريرة بسبب حبه للأشياء الأرضيى.
ورغم هذا فهذه الشرور يجب أن لا تجد سبيلاً للوصول إلى ذهن الراعي. بل يجب عليه أن يسارع بطردها والانتصار عليها. وأنه لا يدع الخطية تقهره باغرائه بمسراتها ولذاتها. فتوجه إليه ضربة مهلكة بسبب تهاونه في صدها.

الفصل الثالث
يجب أن يكون قدوة في سلوكه

يجب أن يكون الراعي قدوة في سلوكه كيما يعلم رعيته بحياته الشخصية كيف ينبغي أن يسلكوا، وقطيع الغنم إذ يتتبع إرشادات الراعي وتوجيهاته فإنه يسير إلى الأفضل عن طريق القدوة وليس عن طريق الكلام. فالإنسان الذي يدعو الناس (بحكم عمله) أن يكونوا مثاليين في سلوكهم، يجب أن يعطيهم مثلاً حياُ للمثالية في سلوكه هو. وبذا يكون لكلامه تأثير أعظم على سامعيه إذا كانت طريقة حياته تؤيد أقواله، فإن القدوة الصالحة ستكون أقوى عامل في تنفيذ أقواله، وفي هذا يقول النبي "على جبل عالي إصعدي يا مبشرة صهيون" (أش 40: 9). أن أن الذي يتولى التعليم الساوي يجب أن يكون قد سما بنفسه عن دنايا الأعمال الأرضية، وأن يرتفع بنفسه ‘لى مكانة عاليه، وهو يستطيع بسلوكه الصالح في الحياة أن ينادي بصوته من الأعالي راعياً رعاياه إلى حياة أفضل.
لهذا السبب كان الكاهن "حسب الشريعة" يتسلم الساق اليمنى للذبيحة منفصلة ليقدمها قرباناً (خر 29: 22)، فسلوك الراعي إذاً لا يجب أن يكون نافعاً فقط، بل أن يكون واضحاً أيضاً. فلا ينبغي أن يتميز عن سلوك الأشرار فقط بل أن يفوق سلوك الأبرار من رعيته أيضاً.
وكما يمتاز عليهم في رتبته، عليه كذلك أن يمتاز عليهم في سلوكه.
ومرة أخرى نجد أن صدر الذبيحة وساقها يخصصان لطعام الكاهن (خر 29: 28) حتى يتعلم أن يكرس لله أجزاء جسمه التي تقابل الأجزاء التي أخذها من جسم الذبيحة. ولا يكفي أن يكون صدر الكاهن وقلبه مملوءان بالأفكار الصالحة بل عليه كذلك أن يدعو كل من ينظر إليه لأن يرتفع إلى مكانة نبيلة، وعليه ألا يشتهي مباهج الحياة الحاضرة، وألا يخاف أية ضيقة، وأن يحتقر مديح العالم بالنظر إلى الخوف الذي يسببه هذا المديح في ضميره، وعليه أيضاً أن يحتقر كل المخاوف بالنظر إلى المباهج التي يقدمها له ضميره.
لهذا السبب أيضاً يشد الكاهن بزنار على كتفيه لكي تحرسه الفضيلة ضد الضيقات وضد التنعم الزائد كما يقول بولس الرسول "سلاح البر لليمين واليسار" (2كو 6: 7)، فبينما يهتم بالأشياء الداخلية، عليه ألا يميل إلى اللذة الوضيعة، كذلك لا يجب أن تجعله الرفاهية يتغطرس وألا تحيده الضيقات وتحزنه ولا ينبغي أن توهن الأمور السهلة من إرادته بل ولا تجعله الأمور الصعبه ييأس وهكذا عندما يصمد الراعي ولا تضعف ارادته أمام العواطف المختلفة يظهر جمال الزنار الذي يغطي كتفه.
بالإضافة إلى هذا، فقد إشترط أن يكون الزنار من ذهب وأسمانجوني وأرجوان وكتان رقيق (خر 28: 8)، حتى يتضح لنا كيف أن الطاهن يجب أن يجمع فضائل متنوعة. فالذهب في ملابس الكاهن يفوق كل الأشياء الأخرى في اللمعان، وهكذا يجب على الكاهن أن يفوق الآخرين في فهم الحكمة، والاسمانجوني اللامع الأزرق كلون السماء أضيف لكي يشير إلى أن الكاهن لا يجب أن ينزل بنفسه إلى حضيض الأشياء الأرضية، بل أن يرتفع بها إلى حب الأشياء السمائية في كل أمر يفكر فيه، وعليه أن يحذر الوقوع في فخ المديح الذي يسلبه القدرة على تمييز الحق.
ومع الذهب والأسمانجوني يوجد أيضاً الأرجوان وهذا يشير إلى أنه بينما يتأمل قلب الكاهن في الأمور التي يعظ عنها يجب عليه أن يميت كل الرغبات الشريرة مهما كانت ضعيفة ويصدها بقوة. ناظراً إلى داخله المتجدد، ومؤمناً حقه في الملكوت السماوي بسلوكه في هذه الحياة. ولقد كان بطرس الرسول يعني هذا السمو الروحي حين قال "وأما أنتم فجنس مختار وكهنوت ملوكي" (1بط 2: 9). أما عن القوة التي تغلب بها الخطية فيقول يوحنا الحبيب معضداً معزياً إيانا "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله" (يو1: 12) ولقد نظر صاحب المزامير إلى هذه القوة حين قال "ما أكرم أفكارك يا الله عندي ما أكثر جملتها" (مز 239: 17). فإنه بالحق عندما يحتقر القديسون في عيون الناس ترتفع عقولهم إلى أعلى المراتب. وبالإضافة إلى الذهب والاسمانجوني والارجوان نجد القرمز، الذي يرمز إلى أنه في نظر فاحص القلوب، يجب أن يبدو لامعاً في عيون الناس وأن يضيء أمام الله بلهيب المحبة المنبعثة من القلب، ولأن هذه المحبة تشمل الله والناس فإن لها وجهان فالشخص الذي يحب خالته وفي نفس الوقت يهمل العناية بأخيه أو ذاك الذي ينهمك في محبة جيرانه حنى ينسى الحب الإلهي – هذان النوعان من الأشخاص لا يعرفان ماذا يعني القرمز في تزيين الزنار.
وكما ينتبه العقل إلى قواعد المحبة يبقى أن نذكر أن الجسد يجب أن يخضع بالزهد والتقشف وكنتيجة لهذا ذكر الكتان الرقيق مع القرمز. فالكتان الرقيق يخرج من الأرض بلون لامع. وماذا يعني الكتان إلا العفاف ولمعانه إلا جمال الطهارة الجسدية. والكتان المبروم يسهم في جمال الزنار.
فالعفاف يفضي إلى اللمعان الكامل للطهارة حينما يضعف الجسد بالزهد، وبينما تظهر فضائل الجسد المنهمك بهذه الطريقة مع الفضائل الأخرى، يلمع الكتان ويظهر جمال الزنار ذو الألوان المتعددة.

الفصل الرابع
ينبغي أن يكون الراعي حكيماً في صمته نافعاً في كلامه

لابد أن يكون الراعي حكيماً في صمته نافعاً في كلامه، لئلا ينطق بما ينبغي أن يبقى سراً، أو يبقي سراً ما كان ينبغي أن ينطق به، فكما أن عدم الحذر في الكلام يقود الناس إلى الوقوع في الخطأ فكذالك السكوت في غير محله يترك بعض الناس يقعون في الخطأ مع أنه كان يمكن إصلاحهم بالإرشاد. وفي كثير من الأحيان يحجم بعض الرعاة عن الكلام وإظهار الحق، خوفاً من أن يفقدوا إحترام الناس ولايظهرون في قول الحق إخلاص الرعاة الذين يهمهم أمر القطيع بل يتصرفون كأجراء (يو 10: 12). فعندما يظهر الذئب يهربون ويخفون أنفسهم في صمت. ولهذا يؤنبهم الله على لسان النبي قائلاً "كلهم كلاب بُكم لا تقدر أن تنبح" (إش 56: 10) ومرة أخرى يشكو منهم قائلاً "لم تصعدوا إلى التفر ولم تبقوا جداراً لبيت إسرائيل للوقوف في الحرب في يوم الرب" (خر 13: 5) ومعنى الصعود إلى التفر ومحاربة العدو هو معارضة القوات الأرضية بكلام صريح للدفاع عن القطيع. والوقوف في الحرب في يوم الرب هو مقاومة الناس الأشرار الذين يحاربوننا وذلك حباً في العدل لأنه إذ جبن الراعي عن أن يقول ما هو حق فماذا يعني ذلك إلا أنه بعدم الكلام قد أدار ظهره وهرب؟ ولكن عندما يضع نفسه في مقدمة القطيع للدفاع عنه فهذا بناء جدار لبيت اسرائيل ضد الأعداء.
ولهذا أيضاً قيل للناس الخطاة "أنبياؤك رأوا لك كذباً وباطلاً ولم يعلنوا إثمك ليردوا سبيك" (مراثي إرميا 2: 14) ويلاحظ أن المعلمين كانوا يسمون أحياناً أنبياء في الكتاب المقدس، لأنهم كانوا يظهرون طبيعة الحاضر ويعلنون المستقبل والله يدفعهم بالكذب لأنهم يمدحون فاعلي الشر ويبرثونهم بدلاً من أن ينقدوا أخطاءهم، وذلك خوفاً منهم وهم يفشلون في إظهار خطأ الأشرار بإبتعادهم عن استعمال كلمات التوبيخ. إن كلمات التوبيخ لهي حقاً المفتاح الذي يظهر الخطية التي لا يحسها فاعلها في كثير من الأحيان، لهذا يقول بولس الرسول "ملازماً للكلمة الصادقة بحسب التعليم لكي يكون قادراً أن يعظ بالتعليم الصحيح ويوبخ المناقضين (تي 1: 9) ولهذا أيضاً قال ملاخي "لأن شفتي الكاهن تحفظان معرفة ومن فمه يطلبون الشريعة لأنه رسول رب الجنود" (ملا 20: 7) لهذا يحذر الرب على لسان إشعياء قائلاً "ناد بصوت عال لا تمسك إرفع صوتك كبوق" (إش 58: 1) فالذي يدخل الكهنوت يأخذ منصب رسول يصيح بصوت عال ويسبق مجيء الديان العادل الذي يتبعه بمظهر رهيب. وإذا كان الكاهن لايستطيع أن يعظ فأي صوت يستطيع هذا الرسول الأبكم أن ينطق به؟ لهذا السبب إستقر الروح القدس على الرعيل الأول من الرعاة على شكل ألسنة (أع 2: 3) لكي يعطي قوة الفصاحة على الفور للذين يملأهم.
ولهذا قيل لموسى أنه يجب أن يتأكد من أن الكاهن حينما يدخل خيمة الإجتماع يجب أن يكون محاطاً بأجراس صغيرة (خر 28: 33) للدلالة على أن الكاهن يجب أن يكون موهوباً في الوعظ لئلا يستوجب بسكوته دينونة الله الذي يرى من فوق لأنه مكتوب "ليسمع صوتها عند دخوله إلى القدس أمام الرب وعند خروجه لئلا يموت" (خر 28: 35). فالكاهن يموت إذا لم يسمع صوته عند دخوله أو خروجه، وهذا يعني أن الكاهن يثير غضب الديان غير المرئي إذ لم يتكلم واعظاً ومبشراً.
وقد وضعت الأجراس الصغيرة على أنها مثبتة في الملابس. حقاً ماذا يفهم بملابس الكاهن إلا أعماله الصالحة! فالنبي يشهد حينما يقول "كهنتك يلبسون البر وأتقياؤك يبتهجون" مز 132: 9. فهذه الأجراس الصغيرة أو الجلاجل كانت تثبت في الملابس كيما تعلن أعمال الكاهن بصوت عال عن طريق حياته في كلامه.
ولكن حينما يعد الراعي نفسه للكلام يجب عليه أن يتوخى الحذر في كلامه لأنه إذا كان كلامه سريعاً في إلقائه، غير منظم في ترتيبه فإن التشتيت سيفصل بينه وبين سامعيه، لهذا السبب يقول السيد المسيح "ليكن لكم في أنفسكم ملح وسالموا بعضكم بعضاً" (مر 9: 50). والمقصود هنا بالملح هو الحكمة في الكلام. إذاً فليحذر الذي يسعى للكلام برجاحة زائدة أن يسبب كلامه إضعافاً لوحدة سامعيه وفي هذا يقول بولس الرسول " أقول بالنعمة المعطاة لي لكل من هو بينكم أن لا يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتئي بل يرتئي إلى التعقل" (رو 12: 3).
ولهذا نجد أن الرمان كان يضاف إلى الأجراس الصغيرة في ملابس الكاهن تبعاً للشريعة الإلهية (خر 28: 34). وماذا يعني الرمان إلا وحدة الإيمان فكما أنه في داخل الرمان بذور كثيرة تجمعها قشرة خارجية واحدة هكذا وحدة الإيمان تضم عدداً لا حصر له من أفراد الكنيسة المقدسة الذين ينضمون تحت لوائها وإن إختلفوا في الصفات والوظائف. لهذا لئلا يندفع الكاهن في كلامه غير واع له قال يسوع لتلاميذه "ليكن لكم في أنفسكم ملح وسالموا بعضكم بعضاً" كما لو كان يقول لهم – مستعملاً رمز ملابس الكاهن "إجمعوا الرمان بالأجراس حتى تحفظوا وحدة الإيمان بخوف وحذر في كل ما تقولون".
يجب على الرعاة أن يتأكدوا أن شفاههم لا تُخرج شيئاً شريراً وعليهم كذلك أن لا يقولوا الكلام النافع بمبالغة أو باهمال، فغالباً ما تضيع قوة الكلام إذا ألقي في سيل غير مناسب من الكلمات مما يضعف تأثيره على قلوب السامعين. هذا النوع من التدفق في الحديث يضعف المتحدث نفسه كما أنه لا يأخذ في إعتباره إحتياجات السامعين العملية. كذلك قال موسى "كل رجل يكون له سيل من لحمه فسيله هذا يكون نجس" (لا 15: 2). فكل الأفكار التي تسيل في عقل السامعين تعتمد على طبيعة الأمور المسموعة. إذ حينما يتقبل السمع الكلام تولد الأفكار في العقل. لذلك دُعي فلاسفة هذا العالم كبير المعلمين (بولس الرسول) "باذر الكلمة" لذلن فإن كل رجل يكون له سيل يكون نجساً، لأنه إذ يترك نفسه لكثرة الكلام فإنه يسيء إلى ذاته، لكن لو نظم حديثه يولد أفكاراً روحانية في قلوب السامعين. في هذا يقول بولس الرسول أيضاً ناصحاً تلميذه بالعكوف على الوعظ "أناشدك أمام الله والرب يسوع المسيح العتيد أن يدين الأحياء والأموات عند ظهور ملكوته، إكرز بالكلمة إعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب" (2 تي 4: 1).

الفصل الخامس
يجب أن يكون الراعي أخاً عطوفاً لكل إنسان
سامياً عن الجميع في تفكيره

فليكن الراعي قريباً من الجميع بعطفه عليهم، وليسمو تفكيره على الجميع حتى يستطيع بمحبته القلبية أن يعرف نقائص رعيته ويحملها، ويستطيع بسمو تأمله أن يتفوقه حتى على نفسه في تشوقه للأشياء غير المنظورة وإلا فإنه إما سيهمل نقائص وضعفات رعيته ويتغاضى عنها بانشغاله في تحقيق آماله العاليه، أو على العكس يرقبك بالأمور الضعيفة ويكف عن السعي إلى إلى ما هو أفضل. فلقد إقتيد بولس الرسول إلى السماء الثالثة وتأمل أسرار الفردوس (2كو 12: 1 – 6). ولكن مع أنه ارتقى إلى تأمل هذه الأشياء غير المنظورة فإنه عاد بعقله الرائي إلى فراش الناس الجسديين ووضع لهم قواعد لعلاقاتهم السرية قائلاً "ولكن بسبب الزنى ليكن لكل واحد إمرأته وليكن لكل واحدة رجلها – ليوفي الرجل المرأة حقها الواجب وكذلك المرأة أيضاً الرجل" (1 كو 7: 2).
وأيضاً يقول "لا يسلب أحدكم الآخر إلا أن يكون على موافقة إلى حين لكي تتفرغوا للصوم والصلاة ثم تجتمعوا أيضاً معاً لكي لا يجربكم الشيطان لسبب عدم نزاهتكم" (1 كو 7: 5).
ويلاحظ أن بولس الرسول قد بدأ يتأمل أسرار السماء فعلاً ومع ذلك فهو بمحبته المتواضعة نزل بفكره إلى فراش الناس الجسديين، وبينما يرتفع بقلبه الرائي إلى الأشياء غير المنظورة حيث قد سما هو شخصياً إليها لكنه يعود بعطف وينظر إلى أسرار الضعفاء، وبينما يصل إلى السماء في تأمله، وبينما هو في شدة إهتمامه، لا يتجاهل فراش الجسديين فهو إذاً قد إرتبط برباط المحبة بأعلى الأشياء وأضعفها على السواء، ومع أن بولس قوي في شخصه، يحلق إلى أعلى المراتب بقوة الروح القدس إلا أنه سر في عطف أن يكون ضعيفاً مع الآخرين في ضعفهم.
لهذا يقول "من يضعف وأنا لا أضعف من يعثر وأنا لا ألتهب" (2 كو 11: 29) ويقول أيضاً "صرت لليهودي كيهودي" (1 كو 9: 20) وهو قد فعل ذلك ليس عن طريق ترك إيمانه بل بتوسيع مكان محبته. وهكذا قصر بتقمصه شخصية غير المؤمن أن يتعلم كيف يعطف على الآخرين وأن يمنحهم ما يود أن يمنحونه إياه لو كان في مكانهم ولهذا يقول أيضاً "لأننا إن صرنا مختلفين فلله أو كنا عاقلين" (2 كو 5: 13) لأنه كان يعرف كيف يتفوق على نفسه بالتأمل وكيف يضبط نفسه بالنزول إلى مستوى سامعيه.
وهكذا رأى يعقوب الرب واقفاً على رأس السلم النازل من السماء إلى الحجر الذي صب عليه الزيت، وكانت الملائكة صاعدة ونازلة عليه (تك 28: 11 – 18) وفي هذا درس للمعلمين الحقيقيين إذ لا يجب عليهم أن يكتفوا بالنظر إلى الرأس المقدسة للكنيسة بل عليهم أن ينزلوا إلى أعضاء الكنيسة ويتعطفوا عليهم.
وهكذا كان موسى يدخل ويخرج كثيراً في خيمة الاجتماع وكان عند وجوده بداخلها يسمو في التأملات وعند وجوده في الخارج يكرس نفسه لخدمة الضعفاء فهو في الداخل يتأمل في الأمور الإلهية الحقيقية، وفي الخارج يتحمل أعباء الناس، وفي الأمور المشكوك فيها كان يرجع إلى خيمة الاجتماع ليستشير الله أمام تابوت الشهادة.
وهكذا يضرب موسى مثلاً حسناً للرعاة حتى إذا لم يستطيعوا التصرف في أمر من الأمور الدنيوية وجب عليهم الرجوع إلى التأمل (إلى داخل خيمة الاجتماع) وهناك كما لو كانوا واقفين أمام تابوت العهد لاستشارة الله، حيث يمكنهم أن يجدوا حلاً لمشاكلهم في صفحات الكتاب المقدس.
وهكذا يسوع (كلمة الحق) الذي أعلن ذاته لنا في شكل طبيعتنا البشرية، كان يصلي على الجبل ثم يخرج يصنع المعجزات مع الناس (لو 6: 12). ولهذا يرينا الطريق الذي ينبغي أن يسلكه الرعاة الأمناء الذين لا ينسون في غمرة إنشغالهم بالتأمل أن يشاركوا بعطفهم الآخرين في إحتياجاتهم وعندئذ ترتفع المحبة إلى درجة عالية عندما تستدر تصرفات الرعية الضعيفة العطف وبقدر ما تزداد نقائص الذين ينزل إليهم الكاهن بقدر ما يزداد إرتفاع وسمو محبته.
وعلى الرعاة أن يحفظوا أسرار الرعية (إعترافاتهم) – عندئذ تستطيع الرعية عندما تمر بهم التجارب أن يلجأوا إلى فهم الراعي كما إلى صدر أم حنون وبواسطة الراحة التي تبعثها كلماته المعزية وصلواتهم المصحوبة بالدموع يستطيعون أن يتطهروا عندما يرون أنفسهم وقد تدنسوا بالخطية التي سقطوا فيها.
لهذا أيضاً كان أمام أبواب هيكل سليمان "بحر" من النحاس الأصفر لغسل أيدي الذين يدخلون إلى الهيكل وكان هذا الحوض محمولاً على اثنى عشر ثوراً يمكن رؤية وجوهها بوضوح ولكن اعجازها غير ظاهرة. ماذا تعني الاثنى عشر ثوراً إلا كمال النظام الرعوي؟ عن هذا يقول الناموس كما يقرر بولس "لأنكم ثوراً دارساً" (1كو 9: 9، 1 تيم 5: 18 مأخوذة أصلاً من تث 25: 4) فنحن نرى الأعمال التي يقوم بها الرعاة علانية ولكننا لا نرى الباقي الذي سيسجل لهم في الحساب السري الذي للديان العادل.
وهؤلاء الذين أعدوا أنفسهم بتواضع وصبر ليطهروا الخطايا التي تعترف بها رعيتهم إنما هم في الواقع يحملون المغسل أمام باب الهيكل – إذاً فعلى كل من يريد أن يدخل من باب الأبدية أن يفضي يخطاياه إلى الكاهن ويطهر أيدي الفكر والعمل في الحوض القائم على الثيران.
ويحدث كثيراً أنه بينما ينزل الراعي بفكره تجارب الغير، تهاجمه هو نفسه شخصياً الأخطاء التي يصغي بسمعه إليها، كما يحدث في حالة المغسل، الذي يتلوث بينما يطهر الناس بواسطته، فهو يستقبل أقذار الناس الذين يغتسلون فيه ويتلوث ويفقد صفاءه، ولكن على الراعي ألا يخاف هذه الأمور على الإطلاق، لأنه حيث أن الله يزن الأمور بدقة، فالراعي ينجو من الاغراء بسهولة أكثر كلما زادت معرفته بالاغراءات التي يتعرض لها الآخرين.


الفصل السادس
يجب أن يكون الراعي في تواضعه رفيقاً بمن يحيون حياة صالحة وفي غيرته صارماً مع فاعلي الشر

ينبغي أن يكون الراعي متواضعاً رفيقاً بمن يحيون حياة صالحة وعليه كذلك أن يكون حازماً ضد فاعلي الشر وعليه ألا يتعالى على فاعلي الخير. كذلك عليه أن يظهر قوة سلطانه في الحال حينما تستدعي خطايا الأشرار ذلك. وعليه أن يترك رتبته جانباً ويعتبر نفسه مساوياً لأصحاب الحياة الفاضلة وفي نفس الوقت عليه ألا يتردد في تنفيذ قوانين الإصلاح ضد الأشرار والمعاندين.
إنني أذكر ما قلته في "الكتب الاخلاقية" إن كل الناس خلقوا بطبيعتهم متساويين في البداية، بينما تسببت الخطية في تقسيمهم إلى طبقات حسب أهوائهم المختلفة وهذا التقسيم إنما هو حكم إلهي فهناك رجل يحكم آخر حيث أنه لا يمكن أن يكون جميع الناس على قدم المساواة.
لهذا السبب لا يجب أن ينظر أصحاب السلطان إلى قوة سلطانهم ولكن إلى الطبيعة المساوية بين البشر وعليهم ألا يجدوا لذتهم وسرورهم في التحكم في الناس ولكن في مساعدتهم لأننا نعلم أن آبائنا الأولين لم يكونوا ملوكاً بل رعاة غنم. وعندما قال الله لنوح وأولاده "أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض" (تك 9: 1) أضاف على الفور قائلاً "ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الأرض. إن الخشية والرهبة فرضت على كل حيوانات الأرض، ولكن ليس على الناس. والإنسان بطبيعته يمتاز عن الحيوانات ولكن ليس على الناس الآخرين، ولهذا قيل له أنه سيكون مرهوباً من الحيوانات ولكن ليس من الناس. ومن الواضح أن الخوف من شخص معناه سيادة هذا الشخص على الآخرين وهذا ضد النظام الطبيعي.
ومما يؤسف له أن الرعاة كثيراً ما يسقطون في الكبرياء نتيجة لسلطانهم على الآخرين، فعندما يرى الراعي أن كل أوامره في الخدمة تنفذ بسرعة حسبما يريد، والرعية كلها تمدحه على حسن تصرفه وهي لا تملك نقد تصرفاته الخاطئة بل إنها تمدحه حيث كان يجب أن تذمه. إذ يرى الراعي كل ذلك يتصلف قلبه الذي ضل الطريق لسوء فهم رعيته. وبينما هو محاط في الخارج بمظاهر الاحترام يكون قلبه خالياً تماماً من الحق، وهو يحيد عن الحق إذ يتناسى قدر ذاته، وهو ينصت إلى مديح الآخرين مؤمناً بما يقوله الناس عنه، وليس بما ينبغي أن يحكم به هو على نفسه في باطنها، في كل هذا يظن أن أفراد الرعية أقل شأناً منه وغير مساويين له حسب النظام الطبيعي، معتقداً بأنه يمتاز بميزات شخصية في حياته عن أولئك الذين يفوقهم بحكم مركزه وهكذا يعتقد أنه أحكم جميع الناس لأنه يفوقهم في السلطان وأنه على جانب عظيم من الرفعة في عيني نفسه، ومع أن هناك حدوداً تفرض المساواة في الطبع البشري فإنه يكره "أن ينظر إلى الآخرين على أنهم متساوين معه. وهو في هذا يجعل نفسه شبيهاً بمن يقول عنه الكتاب المقدس "يشرف على كل متعال. هو ملك على كل بني الكبرياء" (أي 41: 34) ومثل ذلك الذي نظر إلى الكبرياء الذاتي واحتقر الحياة مع الملائكة قائلاً "وأجلس على جبل الاجتماع في أقصى الشمال، وأصعد فوق مرتفعات السماء، وأصير مثل العلي" (إش 14: 13). وبينما هو في الخارج يرفع نفسه إلى قمة المجد والقوة كان في الباطن يحضر هاوية سقوطه، إن الإنسان يصبح كالملاك الجاحد حينما يحتقر كونه مثل بقية الناس رغم أنه إنسان عادي فعلاً.
هكذا تعظم شاول بعد كان معروفاً بتواضعه وأصابه الغرور بسبب عظم قوته. لقد إختاره الله للخدمة عندما كان متواضعاً، ورفضه عندما صار متصلفاً. إن صموئيل النبي يقول له "أليس إذ كنت صغيراً في عينيك صرت رأس أسباط إسرائيل ومسحك الرب ملكاً... لأنك رفضت كلام الرب رفضك من الملك" (1صم 15: 17). ففي بدء ملكه كان يرى نفسه شخصاً صغيراً في عيني نفسه ولكن عندما إعتمد على القوة الزمنية نظر إلى نفسه على أنه أفضل من الآخرين وأعظم من الكل. والحقيقة العجيبة أنه بينما كان صغيراً في عيني نفسه كان عظيماً عند الله، ولكن عندما ظن في نفسه أنه عظيم أصبح صغيراً عند الله.
وعادةً عندما يعظم فكر الإنسان بفعل كثرة أفراد الرعية الذين يحكمهم، يفسد ويتدنس ويصيبه الغرور بفعل عظمة قوته فيفسد عقله. ولكن هذه القوة يمكن أن يتحكم فيها الإنسان إذا عرف كيف يستعملها وكيف يصدها. والعقل الإنساني معرض للإصابة بالغرور حتى ولو كان لا يملك القوة. فكم وكم إذا كان يملكها، والذي يستطيع توجيه قوته توجيهاً صحيحاً. هو الذي يعرف يحصل بواسطتها على ما هو نافع، وكيف يقاول الاغراءات التي تسببها، وكيف يحقق المساواة مع غيره رغم إمتلاكه القوة وفي نفس الوقت يعرف كيف يرتفع بنفسه عن الشرق مجازياً المجدفين.
إن هذا يتضح لنا أكثر عندما نتأمل الأمثلة التي قدمها بطرس الرسول الذي رفض الاحترام الزائد من كرنيليوس قائد المئة، ومع أن كرنيليوس تصرف تصرفاً صحيحاً في سجوده باتضاع، ولكن بطرس نظر إليه كشخص مساوٍ له عندا قال "قم أنا إنسان" (أع 10: 26).
ولكنه عندما إكتشف خطية حنانيا وسفيره أظهر في الحال سلطانه وقضى على حياتهما إذ كشف سرهما بروحه الناقدة (أع 5: 3 – 5). فلقد تذكر مباشرة أنه صاحب سلطان الكنيسة عند مقاومته للشر ولكن لم يخطر فكر كهذا على باله وهو في وسط إخوانه الأبرار من الرعية مع أنهم كانو يجلونه. ففي الحالة الأولى نرى أن السلوك الصالح يقابل بتأكيد المساواة بين الجميع وفي الحالة الثانية نجد أن الرغبة ف المجازاة بالعدل أظهرت مدى السلطة. وبولس الرسول لم يظهر أي شعور بالعظمة أو الامتياز عن إخوانه الأتقياء عندما قال "ليس أننا نسود على إيمانكم بل نحن مؤازرون لسروركم ... لأنكم به بالإيمان بثبتون" (2كو 1: 13). كما لو كان يقول "نحن مساوون لكم في الإيمان، ونحن لا نتسلط على إيمانكم" بل وأكثر من هذا يضع بولس نفسه أمام رعيته حين يقول "فإننا لسنا نكرز بأنفسنا بل بالمسيح يسوع رباً ... ولكن بأنفسنا عبيداً لكم من أجل يسوع" (2كو 4: 5) ... ولكن عندما اكتشف خطأ يستوجب الإصلاح تذكر على الفور أنه سيد ومعلم وقال "ماذا تريدون، أبعصا آتي إليكم؟" (1كو 4: 21). فالسلطان الذي يتمتع به صاحب المنصب العظيم يجب أن يستخدم ضد الشر وليس ضد الاخوان، وعندما يحاول الرعاة إصلاح رعاياهم المنحرفين يجب عليهم أن يتميزوا بالتواضع حتى لا ينحرفوا في إستخدام سلطتهم وعليهم أن يحسوا بمساواتهم للأخوة الذين يصلحونهم وعلينا أن نتدرب في صمت وتأمل وأن نفضل الأشخاص الذين يصلح أخطائهم عن أنفسنا. لأن خطاياهم تصلح عن طريقنا، أما خطايانا كرعاة فلا يوبخنا أو حتى ينتقدنا عليها أي شخص ولذا يزداد إثمنا أمام الله كلما أخطأنا ولم نعاقب من الناس – وطقسنا يحرر الرعية من الدينونة الإلهية لأنه يدين الرعية على أخطائهم هنا في العالم.
لهذا يجب أن يسود التواضع في القلب، والنظام في العمل، وبين هذين يجب أن نحذر من التهاون في حقوق الحكم نتيجة للاغراق الزائد عن الحد في التواضع لأنه إذا حط الشخص المسئول من نفسه بدون داع فقد لا يستطيع أن يحفظ حياة الرعية في دائرة النظام.
لذلك فليكن تصرف الرعاة الخارجي حسب ما يرونه واجباً لخدمة الآخرين وليحفظوا في داخلهم الخوف بالنسبة لأنفسهم، ومع ذلك فلتتأكد الرعية أن الحكام متواضعون داخلياً أمام أنفسهم وهكذا يجب على الرعية أن تعرف ما ينبغي أن تخافه من السلطة، وما ينبغي أن تقلده في محيط التواضع.
وعلى الرعاة أن يتذكروا دائماً أنه بقدر ما يعظم مظهرهم الخارجي بقدر ما يجب إخضاع نفوسهم داخلياً. فالسلطة لا ينبغي أن تسيطر على التفكير ولا أن تأسر العقل وإلا عجز العقل عن التحكم في هذه القوة وخضع لها بسبب حبه للسيطرة والسيادة. وفي هذا قال أحد الحكماء "إن أقاموك حاكماً لا ترتفع ويكن بنسلك بين الرعية لواحد منها". كذلك يقول بطرس الرسول "ولا كمن يسود على ... بل صائرين أمثلة للرعية" (1 بط 5: 3).
ويقول رب الحق داعياً إيانا إلى المزايا السامية للقضيلة: أنتم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلطون فلا يكون هذا فيكم. بل من أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن خادماً. ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن عبداً. كما أن ابن الإنسان لم يأتِ ليخدم بل يخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مت 20: 25 – 28). لهذا أشار الرب إلى العقاب الذي ينتظر الخادم الذي يتكبر في القدر الذي أعطى له من السلطة قائلاً "ولكن إن قال ذلك العبد الردي في قلبه سيدي يبطيء قدومه. فيبتدي يضرب العبيد رفقاءه ويأكل ويشرب مع السكارى. يأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره وفي ساعة لا يعرفها فيقطعه ويجعل نصيبه مع المرائين هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" (مت 24: 48 – 51). فالرجل الذي يستغل سلطة الحكم لفرض السيادة يدعى بحق منافقاً.
ولكن في بعض الأحيان تتولد شرور أكثر عندما يقابل الأشرار بسياسة المساواة وليس بالنظام والعدل. ومثال ذلك عالي الكاهن الذي تغلبت عليه العاطفة في غير اتجاهها الصحيح فإذ لم يرغب في تأديب ولديه المخطئين مات هو وولديه بحكم الديان العادل كالقول الإلهي "وتكرم بنيك عليّ" (صم 2: 29). وقد وبخ النبي الرعاة قائلاً "والمكسور لم تجبروه والمطرود لم تستردوه" (مز 34: 4). ويمكن إرجاع المطرود مرة ثانية إلى حياة الصلاح بعد سقوطه في الخطية وذلك بفعل الرعاية الكهنوتية. فعندما تسود الرعاية والنظام على الخطية يكون ذلك أشبه بضامده تربط جرحاً، وقد يستمر الجرح في النزيف ويفضي إلى الموت كنتيجة لعدم وجود ضغط محكم يربطه، ولكن يحدث أحياناً أن يسوء حالة الجرح بسبب تضميده بضمادة غير متقنة. إذ أن الجرح يسبب آلاماً أكثر بربطه بشدة أكثر من اللازم. لذا يجب عند تضميد جرح الخطية أن يكون الرباط معتدلاً حتى لا ينعدم الشعور بالرحمة كنتيجة للطريقة التي تطبق بها مباديء الرعاية على الخاطيء. فعلى الراعي أن يظهر لرعيته الحنان كأم حنون. ويصلحهم كأب. وفي كلتا الحالتين يجب أن يطبق العلاج بحذر وعناية لئلا يكون نظام الرعاية صارماً أكثر من اللازم أو اللين أكثر مما يجب.
والنظام والعطف يكونان كلاهما ناقصين إذا طبق كلا منهما على حده. وعلى الحكام في علاقاتهم بالمحكومين أن يكونوا مدفوعين بالشفقة في الوقت المناسب، وبالشدة والنظام الممزوجين بالمحبة وهذا ما يعلمنا إياه الحق الإلهي في مثل السامري الصالح الذي حمل الرجل المشرف على الموت وأوصله للفندق ووضع على جروحه الخمر والزيت، والخمر ليحرقها والزيت ليلطفها. وهكذا كل من يشفي الجروح يسبب ألماً شديداُ بالخر ويلطفها بالزيت لأن الخمر يطهر الجروح والزيت يساعد على إلتئامها. وبعبارة أخرى ينبغي أن تخرج الرقة بالشدة. بحيث لا تضيق الرعية بالقسوة الشديدة ولا تضعف بسبب اللين الزائد – وقد رمز إلى هذا – كما يقول بولس بولس الرسول بتابوت الشهادة الذي كان فيه – إلى جانب لوحي الشهادة – العصا والمن. لأنه إذا أستعملت العصا للتأديب في معرفة كلمة الله المكتوبة في لوحي الشهادة يجب أن يكون هناك المن اللذيذ بجانبها. لنا يقول داود النبي "عصاك وعكازك هما يعزيانني" (مز 23: 4). إننا نضرب بالعصا ولكننا نستند على العكاز – فإن كانت العصا ستضرب لكي ما تصلح وجب أن يكون هناك عكاز لكيما يسند ويعزي.
ينبغي أن يكون هناك الحب الذي لا يفتر والقوة التي لا تعثر والغيرة غير المتطرفة التي يمكن التحكم فيها والحنان الذي يتغاضى عن الهفوات ولكن في حدود المعقول وهكذا إذ يمتزج العدل والرحمة في الحكم يمكن للحاكم أن يبعث السكينة في قلوب الرعية حتى ولو كان يثير الرهبة، فهو يبعث الطمأنينة في نفوسهم ولكنه يحملهم في نفس الوقت على إحترامه ورهبته.

الفصل السابع
الراعي في إهتمامه بالأمور الخارجية لا ينبغي أن يهمل الحياة الداخلية ولا أن يهمل الخارجية باهتمامه بالداخلية

لا ينبغي الراعي أن يقلل من إهتمامه بالحياة الداخلية لسبب اهتمامه بالأمور الخارجية، ولا ينبغي كذلك أن يكون إهتمامه بالحياة الداخلية سبباً في إهماله لشئون الرعاية الروحية، لئلا ينغمس فيما هو خارجي فيهلك داخلياً أو يحصر نفسه فيما يختص بالداخل فقط وينسى أن يمنح إخوته الرعاية اللازمة.
ففي كثير من الأحيان ينسى بعض الرعاة أنهم قد أعطوا سلطاناً على إخوتهم ليعملوا على خلاص نفوسهم، فيكرسون أنفسهم بكل ما لهم من قوة لمشاغلهم العالمية، ويتفرغون لهذه المشاكل طالما كانت موجودة أمامهم، فإذا لم تكن موجودة فإنهم يلهثون وراءها ليلاً ونهاراً بعقل قلق ومضطرب، وحتى عندما تنقضي المناسبات التي تستدعي وجود هذه المشاكل فإن فكرهم يظل منشغلاً بها. إنهم يسرون بانشغالهم بها ولا يرتاحون إلا إذا هم كدحوا فيها. هؤلاء يسرون بانشغالهم بالمشاغل العالمية ويهملون الأمور الداخلية التي كان ينبغي أن يعلموها للآخرين. ولهذا تزيد حياة الرعية فتوراً رغم أنهم يريدون أن ينمو في الروحيات، بسبب إصطدامهم بحجر العشرة وهو قدوة رعاتهم.
فالرأس إن وهنت فقدت الأعضاء قوتها، ومن العبث حينما يشتبك جيش مع قوات الأعداء أن يتبع الجنود قائدهم الذي ضل الطريق، حينئذ لا يستطيع النصح أن يهذب النفوس، ولا التوبيخ أن ينتهر آثامهم. وإذا تحول راعي النفوس إلى قاضي أرضي فإن القطيع لا يستطيع أن يعاين النور الحقيقي وعندما ينشغل عقل الراعي بالهموم الأرضية فإن الغبار الذي تثيره ريح التجارب يغمي عيون المؤمنين وعلى العكس من ذلك قال مخلص البشرية ناهياً إيانا من الشهوات "فاحترزوا لأنفسكم لئلا تثقل قلوبكم في خمار وسكر، ويضيف بعد ذلك مباشرة "وهموم الحياة" وفي نفس المناسبة أضاف عامل الخوف قائلاً "فيصادفكم ذلك اليوم بغتة" وقد أعلن طبيعة هذا اليوم فقال "لأنه كالفخ يأتي على جميع الجالسين على وجه الأرض" (لو36: 34 – 36). ولنفس السبب قال أيضاً "لايقدر خادم أن يخدم سيدين" (لو 16: 13).
لذلك يحذر بولس الرسول النفوس الأتقياء من شركة العالم، وهو لا يكتفي بدعوتهم لذلك فقط، بل يجندهم أيضاً فيقول "ليس أحد وهو يتجند يرتبك بأعمال الحياة لكي يرضى من جنده" (2تي: 2: 4). لأجل ذلك يأمر الرسول رعاة الكنيسة أن يهدفوا إلى تحرير أنفسهم من هذه الأشياء وهو يشير في مشورته إلى العلاج فيقول "فإن كان لكم محاكم في أمور هذه الحياة فاجلسوا المحتقرين في الكنيسة قضاة" (1 كو 6: 4).
أى أن الأشخاص الذين لم يتحلوا بالمواهب الروحية عليهم تدبير الشئون العالمية، فهو يريد أن يقول توضيحاً لذلك "لما أن هؤلاء لا يمكنهم إدراك الأمور الداخلية فلا أقل من أن يشغلوا أنفسهم بالشئون الخارجية ومن ثم فإن موسى كليم الله قد لامه يثرون الرجل الغريب الجنس لأنه كرس نفسه لشئون الشعب الأرضية" (خر 18: 17). وقد أشار عليه في نفس الوقت أن يعين أناساً آخرين بدلاً منه ليقضوا في المنازعات حتى يتفرغ هو لتعلم أسرار الأمور الروحية وتلقينها للشعب.
إذاً فعلى الرعية أن تقوم الأمور الصغيرة وعلى الرعاة أن يضطعلوا بالأمور الهامة حتى لا يتسبب الغبار الأرضي في إظلام العين التي نصبت عالياً لترشد الخطى. فإن الرعاة جميعاً هم رؤوس للرعية ويتحتم على الرأس أن تتطلع إلى الأمام من فوق حتى تستطيع الإقدام السير للأمام في طريق مستقيم. أما إذا أعوجت هيئة الجسم المستقيمة وانحنت الهامة حتى الأرض، تثاقلت الأرجل في سيرها في طريق التقدم.
فكيف يسمح ضمير الراعي له بالتمتع بكرامة الكهنوت عند الآخرين إن كان هو قد إنشغل بالأمور الأرضية التي كان عليه أن يوبخ الآخرين بسببها؟ هذا هو حقاً ما توعده الرب في غضب مجازاته العادلة بالنبي القائل "فيكون كما الشعب هكذا الكاهن" (هو 4: 9). ويستوي الكهنة القائمون على الخدمة الروحية والشعب عندما تكون أعمالهم كأعمال الذين يسعون وراء كل ما هو جسدي. فقد تأمل إرمياء النبي في هذا وأظهر في جزعه على خراب الهيكل حزن محبته العميق فقال "كيف أكدر الذهب تغير بالإبريز الجيد، إنهارت حجارة القدس في رأس كل شارع" (مراثي إرمياء 4: 1). وماذا يقصد بالذهب الذي يفوق كل المادن الأخرى إلا سمو القداسة؟ وماذا يقصد بالإبريز الجيد إلا الاحترام الذي نكنه؟ نعم ماذا تعني حجارة القدس إلا أصحاب الرتب المقدسة؟ وماذا يقصد بكلمة شوارع إلا سعة هذه الحياة؟ والحق الإلهي نفسه يقول "لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك" (مت 7: 13). إن الذهب يتكدر عندما تفسد الحياة المقدسة بالأعمال الأرضية ويتغير الإبريز الجيد عندما يقل تقدير الناس لهؤلاء الذين كان يظن أنهم أتقياء فعندما ينشغل إنسان بالأمور الأرضية ويترك حياة القجاسة تنقص كرامته وتتكدر وكأن بريقه قد بهت في عيون الناس وكأن بحجارة القدس تنهال في الشوارع عندما يهتم الرعاة الذين كان ينبغي عليهم أن يشغلوا أنفسهم بالأسرار الداخلية لزينة الكنيسة – أي أسرار تابوت العهد – عندما يهتم هؤلاء في طرق العالم الواسعة. ومن الواضح أن أحجار القدس كانت تظهر في حلة رئيس الكهنة في قدس الأقداس لكن إذا كان سلوك خدام الدين لا يجعل الرعية يقدمون كرامة لمخلصهم فإن أحجار القدس لا تكون في ثوب رئيس الكهنة وتنهال هذه الأحجار حقاً في الشوارع عندما يسلم أصحاب الرتب المقدسة أنفسهم إلى ملذاتهم الخاصة ويلتصقون بالأمور الأرضية.
وينبغي أن نلاحظ أيضاً أنه قد قيل هذه الحجارة لم تنهال فقط في الشوارع بل في رؤوس الشوارع أيضاً وهذا يعني أنه حينما ينشغل الرعاة في الأمور العالمية فإنهم يحبون التواجد على رؤوس الشوارع حتى يتحكموا في الطرق الواسعة التي تؤدي إلى ملذاتهم وفي نفس الوقت يكونوا عند رأس الشارع بالمظهر الخارجي للتقوى.
وليس هناك ما يمنعنا من أن نفهم أن هذه الحجارة هي الحجارة التي بنى منها المقدس فهي تكون مبعثرة في الشوارع عندما ينغمس رجال الدين – الذي كان مجد القداسة يتجلى في مناصبهم المقدسة من قبل – عندما ينغمس هؤلاء في الأمور العالمية. لهذا ينبغي على الراعي أن يضطلع بعبء المشاغل العالمية ولكن عليه ألا يسعى ورائها أبداً بدافع من الحب لها، خوفاً من أن تسيطر على ذهن الشخص المرتبط بها فينوء بثقلها ويهبط إلى الأعماق بعيداً عن الاهتمامات السماوية.
وعلى العكس من ذلك يضطلع البعض برعاية القطيع ولكنهم يرغبون في التفرغ للأمور الروحية تماماً بحيث لا يعطوا وقت للأمور الخارجية، وأمثال هؤلاء لا يقدمون أي معونة لرعاياهم وباهمالهم ما يختص بالجسد ولهذا لاغرو إذا كان وعظهم غالباً ما يهمل لأنهم بعد إعطائهم الرعية ضروريات الحياة الحاضرة لا تجد كلماتهم تجاوباً من السامعين والتعليم لا يصل إلى ذهن من يحتاجون إليه إذا لم يوصله قلب عطوف إلى قلوب السامعين، وبذرة الكلمة تنمو جيداً في قلب السامع إذا رواها عطف المتكلم فعلى الراعي إذا أراد أن يزرع في الداخل – أن يهتم بالخارج – إذا أن يكرسوا كل جهدهم للحياة الداخلية لرعيتهم ولكن دون أن يهملوا ما هو للحياة الخارجية أيضاً.
وكما سبق أن قلت أن للرعية العذر إذا لم يقبلوا كلام الواعظ بسبب إهمال الراعي في واجب تقديمه المعونة الخارجية. وفي هذا أعطانا بطرس الرسول تعليمه الجاد قائلاً "أطلب إلى الشيوخ الذين منكم أنا الشيخ رفيقكم والشاهد لآلام المسيح وشريك المجد العتيد أن يعلن. أرعوا رعية الله التي بينكم" (1 بط 5: 1).
وهو هنا يوضح ما إذا كان يعني رعاية القلب أو رعاية الجسد عندما يضيف "نظاراً لا عن – اضطرار بل بالإختيار ولا لربح قبيح بل ينشاط" وفي هذا نوع رقيق من التحذير للرعاة لئلا يطعنوا أنفسهم بخنجر الطموح وهم يرضون رغبات رعيتهم ولئلا يبقوا محرومين من خمز الصلاح بعد أن يكونوا قد قدموا لإخوتهم المعونة الجسدية ويذكر بولس الرسول هذا الاهتمام الرعوي عندما يقول "وإن كان أحد لا يعتني بخاصته ولا سيما أهل بيته فقد أنكر الإيمان وهو شر من غير المؤمن" (1تي 5: 8). لهذا يجب عليهم في مثل هذه الأمور أن يكونوا دائماً خائفين ومتيقظين لئلا يبتعدوا عن أهدافهم الروحية في غمرة إنشغالهم بالمشاغل الخارجية – لأنه كما قلت – كثيراً ما يحدث أن تنشغل قلوب الرعاة في غفلة منهم بالمشاغل العالمية فيتغير حبهم الداخل وينغمسوا في الأمور الخارجية ويتجاهلوا أنهم قد أخذوا على عاتقهم توجيه النفوس – ونتيجة لهذا تكون رعايتهم المقصورة على الناحية الخارجية في حدود ضيقة.
لهذا قال حزقيال عن الكهنة "ولا يحلقون رؤوسهم ولا يربون خصلاً بل يجزون شعر رؤوسهم جزاً" (حز 44: 2). لأن الرعاة الحقيقيين هم الذين يتولون رعاية المؤمنين لإرشادهم إلى الأمور المقدسة. فالشعر على الرأس هو الأفكار المتعلقة بالأمور الخارجية وعندما تطغي هذه بغزارة على العقل فإنها تدل على أن مشاغل الحياة الحاضرة تنمو أكثر من اللازم بسبب عدم الاهتمام وتزيد ونحن غير شاعرين بها. فإذا كان كل من له سلطة على الآخرين يجب أن يهتم بالأمور الخارجية ولكن دون أن ينشغل بها أكثر من اللازم، فلهذا منع الرعاة من أن يحلقوا شعر رؤوسهم تماماً أو يتركوه لينمو، حتى لا ينسوا الاهتمامات الجسدية لرعاياهم ولا يسمحوا لها كذلك بأن تشغلهم أكثر مما يجب ولهذا أمروا أن "يجزوا شعر رؤوسهم جزاً" أي يهتموا بالأمور الجسدية بالقدر اللازم ولكن ليس أكثر مما يجب. بهذا نؤمن الحياة الجسدية بالاهتمام بما هو خارجي ولا يمنع ذلك الاهتمام بما هو للقلب، الشعر على رأس الكاهن يبقى لكي يغطي الجلد ولكنه يقص بحيث لا يغطي العينين.


الفصل الثامن
يجب على الراعي ألا يهتم إهتماماً زائداً بارضاء الناس ولكن عليه أن يرضيهم

لا بد أن يحرص الراعي على ألا يكون مدفوعاً بالرغبة في إرضاء الناس حتى لا يهتم بكسب حب رعاياه أكثر من إهتمامه بالحق، ولئلا يجعله حبه لنفسه غريباً عن خالقه بسبب إعتماده على أعماله الحسنة واعطائه لنفسه مظهر الغريب عن العالم.
والشخص الذي يهدف بأعماله الطيبة إلى كسب حب الكنيسة (المؤمنين) أكثر من حب الله إنما هو عدو لمخلصه. والخادم الذي يرسله العريس بهدايا لعروسه يخطيء بفكره إذا أراد أن يسر عيني العروس. وعندما يتملك حب النفس من ذهن الراعي فإنه يدفعه إلى التراخي والتساهل الزائدين أو إلى الخشونة والقسوة. فمحبة الراعي لنفسه قد تدفعه إلى التراخي والتساهل إذا رآهم يخطئون ولم يجرؤ على إصلاحهم لأنه يخشى أن يضعف حبهم له وكثيراً ما ينغاضى عن خطاياهم ويتملقهم بدلاً من أن يوبخهم عليها ولذا قال النبي "ويل للواتي يخطن وسائد لكل أوصال الأيدي ويصنعن مخدات لرأس كل قامة لإصطياد النفوس" (حز 13: 18). ووضع الوسائد تحت أوصال الأيدي هو مدح وتملق النفوس التي إبتعدت عن الاستقامة وانغمست في ملذات العالم والخص الذي لا يوجه إليه اللوم والتوبيخ العنيف عندما يخطيء بل يكال له المديح يكون كمن وضعت له وسائد تحت مرفقيه أو رأسه حتى يستريح في وضعه الخاطيء حيث لا يقلقه توبيخ جاف.
ويظهر الرعاة هذا التساهل نحو الأشخاص الذين في مقدورهم أن يمنعونهم من الحصول على المجد العالمي. ولكنهم يوبخون بشدة وباستمرار الأشخاص الذين ليس في مقدورهم أن يفعلوا شيئاً. وهم لا يوبخونهم بلطف أبداً. بل ينسون التواضع الرعوي ويوقعوا الرعب في قلوبهم بحكم سلطتهم كرعاة. وتدين الكلمة الإلهية أمثال هؤلاء الرعاة على لسان النبي القائل "بل بشدة وعنف تصلتم عليهم" (خر 34: 4). هؤلاء يحبون أنفسهم أكثر من خالقهم ويتباهون وهم يتخذون إجراءاتهم ضد رعاياهم. وهم لا يفكرون فيما يجب أن يفعلوه، ولكن يفكرون فقط في القوة التي يملكونها. ولا يخافون من الدينونة المقبلة. ولكنهم يفخرون بقوتهم الزمنية وبأن لهم الحرية بأن يتصرفوا تصرفات خاطئة وبدون أي معارضة من رعاياهم.
والشخص الذي يتصرف تصرفاً شريراً ويرغب في أن يسكت الآخرين عنه هو شاهد على نفسه لأنه يرغب في أن يحبه الآخرون أكثر من الحق الذي لا يريد الدفاع عنه ضد نفسه. وبالطبع ليس هناك من يعيش بلا خطية. ولكن الشخص الذي يحب ألا يخشاه الآخرون في الحق يحب الحق أكثر من نفسه، ولهذا قبل بطرس بسرور وتوبيخ بولس (غلاطية 2: 11). وأصغى داود بقبول لتوبيخ أحد الرعية (2مل 12: 7). لأن الرعاة الصالحين الذين لا يهتمون بحب النفس يأخذون الكلمات الحرة الصادقة التي تصدر عن الرعية على أنها تزيد من تواضعهم. ولكن في هذه الناحية يجب أن يؤخذ منصب الرعاية بكثير من الاعتدال بحيث لا يؤدي إعطاء الرعية الحرية إلى التعبير عن آرائهم في بعض الأمور التي أصابتهم بالغرور، فإنهم إذا منحوا حرية الكلام أكثر من اللازم فقدوا تواضعهم. ويجب أن نلاحظ أيضاً أن الرعاة المهرة يجب أن يحرصوا على إرضاء الناس ولكن بحيث يجذبوا الرعية إلى محبة الحق بالتقدير الذي يكنونه لرعاتهم. وفي هذه الحالة لا يرغب الرعاة في أن يكونوا محبوبين هم أنفسهم، ولكنهم يرغبون في أن يكون هذا الحب طريقاً يقود قلوب السامعين إلى محبة الخالق، ومن الصعب على إنسان غير محبوب مهما كان وعظه جيداً أن يجد مستمعين مستجيبين. لهذا يجب أن يهدف كل راعي إلى أن يكون محبوباً لكي يستمع الناس إليه، وليس لكي يحبوه لشخصه لئلا يتمرد فكره على الإله الذي يخدمه في منصبه.
ويشير بولس الرسول إلى ذلك عندما يوضح لنا أسرار جهاده قائلاً "كما أنا أيضاً أرضي الجميع في كل شيء" (1كو 1: 33). ثم يقول أيضاً "فلو كنت بعد أرضي الناس لم أكن عبداً للمسيح" (غلا 1: 10). هكذا يرضي بولس الرسول الناس ولا يرضيهم. لأنه في رغبته لإرضاء الناس لم يرغب في أن يرضيهم بل أن يرضي الحق الناس بواسطته.
الفصل التاسع
يجب أن يدرك الراعي أن الرذائل غالباً ما تتخفى في ثياب الفضائل

يجب أن يفهم الراعي أن الرذائل ترتدي عادةً أقنعة الفضيلة. فعلى سبيل المثال غالباً ما يسمي البخيل نفسه مدبراً. بينما يخفي المبذر حقيقة نفسه ويقول أنه سخي اليد. وأحياناً يعتبر التساهل الزائد وقلة الحزم رحمة ومحبة وينظر للغضب المتهور على أنه غيرة روحية. وكثيراً ما يعتبر التسرع والتهور نشاطاً وهمة نافعة. ويعتبر التباطؤ والتكاسل نوعاً من التمهل الرزين. ولهذا ينبغي على راعي النفوس أن يميز بحكمة وعناية الفضائل من الرذائل لئلا يتمكن البخل من قلبه وهو يبالغ في الظهور بمظهر المدبر أو يفخر بكرمه كما لو كان فضيلة وهو في الحقيقة مبذر ومتلاف. أو يتغاضى عما يجب أن ينتقده بشدة فيجلب لرعيته العقاب الأبدي أو يعاقب الأخطاء بدون رحمة فيخطئ بذلك خطأ أكبر أو إذا شد التعجل الطائش وقار واستقامة تصرفه كذلك فإن تأجيل عمل صالح قد يحوله إلى عمل شرير.

الفصل العاشر
الحكمة المطلوبة من الراعي في استعمال التوبيخ والتغاضي والشدة واللطف

ينبغي أن يلاحظ أيضاً أنه في بعض الأحيان يجب التغاضي بحكمة عن أخطاء الرعية ولكن مع إشعارهم بهذا التغاضي. وفي بعض الأحيان يحسن التغاضي عن بعض الأخطاء ولو كانت معروفة للجميع. ولكن في حالات أخرى يجب أن يستعمل التدقيق الشديد ولو كانت الأخطاء مستورة وبحسب الحالة يجب أن يتصرف الراعي سواء بالعتاب اللطيف أو بالعقاب الشديد.
وبعض الأشياء كما قلت يجب التغاضي عنها بحكمة. ولكن هذا التغاضي يجب أن يكون بحيث يشعر الخاطىء أنه قد اكتشف أمره وغض النظر عن خطأه حتى يخجل من التمادي في أخطاءه التي أدرك أنه قد غض النظر عنها في صمت. وقد يعاقب نفسه بأن يصبح قاضي نفسه إذا سامحه الراعي برحمة. بهذا التسامح وبخ الرب اليهوجية عندما قال على لسان النبي "وممن خشيت وخفت حتى خنت وإياي لم تذكري ولا وضعت في قلبك أما أنا ساكت" (إش 57: 11). تغاضى الرب عن أخطائها وجعلها تعرف أنه قد فعل ذلك. لم يقل الرب شيئاً ضد المخطىء، ومع ذلك أعلن أنه قد تسامح، فإن بعض الأشياء حتى ولو كانت معروفة علانية – يجب التغاضي عنها بحكمة عندما لا تكون الفرصة مناسبة للتوبيخ العلني. إن العلاج في غير الوقت المناسب يزيد الجروح، وإذا كانت الأدوية غير مناسبة فمن المؤكد أنها لا تصلح لغرض الشفاء.
ويختبر صبر الراعي في تحمل أخطاء الرعية أثناء بحثه عن فرصة لإصلاحهم. ولهذا قال صاحب المزامير "على ظهري ضرب الحراث" (مز 129: 3). لأننا نحمل الأثقال على ظهورنا وهكذا يشكو داود من أن الخطاة قد أثقلوا ظهره وكأنه يريد أن يقول إن أولئك الذين لا أستطيع إصلاحهم، أحملهم كحمل".
ومع ذلك فإن هناك بعض الأمور السرية التي يجب البحث فيها بتدقيق، فإذا ظهرت بعض الأعراض أمكن للراعي أن يكتشف كل ما يعمل داخل عقول الرعية، وبالتوبيخ في الوقت المناسب يمكنه أن يستخلص من الأشياء غير المهمة أشياء مهمة، ولهذا قيل لحزقيال "يا ابن آدم إنقب في الحائط" ويضيف نفس النبي "فنقبت في الحائط فإذا باب وقال لي أدخل وأنظر الرجاسات الشريرة التي هم عملوها هنا. فدخلت ونظرت وإذا كل شكل دبابات وحيوانات نجس وكل أصنام بيت إسرائيل مرسومة على الحائط" (حز 8: 8 – 10). فحزقيال يرمز إلى السلطة والحائط يرمز إلى قسوة الرعية، والنقب في الحائط هو الكشف عن قسوة قلوبهم بالاستجواب الدقيق. وعندما نقب حزقيال الحائط وجد باباً. وهذا يرمز إلى أنه عندما تتكشف قساوة القلب بواسطة الاستجواب المدقق أو التوبيخ الحكيم يظهر باب فترى من خلاله كل الأفكار الداخلية. ويتبع هذه الكلمات الآتية "أدخل وأنظر الرجاسات الشريرة التي هم عملوها هنا" فهو يدخل ليرى الرجاسات. وكذلك الراعي الذي يرى بعض الأعراض الخارجية فينفذ عن طريقها إلى قلوب رعيته تتكشف له كل الأفكار الشريرة الموجودة بها.
ولهذا إستعرض النبي قائلاً "قد دخلت ونظرت وإذا كل شكل دبابات وحيوانات نجس" والدبابات هنا ترمز إلى الأفكار الأرضية تماماً، بينما يرمز الحيوان إلى الأفكار التي تسمو عن الأرض قليلاً ولكنها لازالت تتوقع الجزاء الأرضي لأن أجسام الزواحف تلتصق تماماً بالأرض. بينما ترتفع أجسام الحيوانات عن الأرض إلى حد كبير ولكنها مرتبطة بشهواتها الجشعة. فالدبابات تكون موجودة داخل الحائط إذا كانت في الذهن أفكار لا تسمو أبداً عن الرغبات الأرضية.
أما وجود الحيوانات داخل الحائط فيحدث عندما توجد أفكار صالحة ولكنها تضعف أمام الرغبة في المكاسب والأمجاد الأرضية. وبالرغم من أن هذه الأفكار تسمو عن الأرض إلا أنها تهبط بنفسها إلى الحضيض بسبب سعيها لارضاء الشهوات الجشعة. ولهذا أضيفت هذه الزيادة العكسية "وكل أصنام بيت إسرائيل ورسومه على الحائط" لأنه مكتوب ... "الطمع الذي هو عبادة الأوثان" (كولو 3: 5) لهذا أضيفت الأصنام بعد الحيوانات لأن البعض يسمون بأنفسهم عن الأرض بأعمالهم الصالحة ولكنهم يهبطون بأنفسهم إلى الأرض بطموحهم الشرير وحسناً قيل أنها مرسومة على الحائط لأن هذا يشبه ما يحدث عندما تدخل الأشياء العالمية إلى العقل فتنطبع الخيالات التي تدور في ذهن الإنسان على قلبه كرسوم. من هذا نلاحظ أنه في باديء الأمر يظهر ثقب في الحائط. ثم باب وعندئذ فقط تنكشف النجاسات الخفية. لأن كل علامة الخطية تظهر أولاً في الخارج. ثم يظهر باب تخرج منه الخطية العلنية وعندئذ يظهر كل شيء بالداخل.
وهناك بعض الأشياء التي يجب أن توبخ بلطف. فمثلاً إذا إرتكبت الخطية ليس عن عمد ولكن عن ضعف أو جهل. هنا يجب أن يؤنب المخطيء ولكن في رقة عظيمة لأننا جميعاً عرضة لضعفات طبيعتنا الفاسدة طالما نحن موجودون في هذا الجسد الفاني. لهذا يجب أن يرى كل إنسان من حالته الشخصية كيف ينبغي أن يكون شفوقاً على ضعفات الآخرين لأننا ننسى حالة ضعفنا عندما نندفع بشدة إلى توبيخ الآخرين من أجل ضعفاتهم. ولهذا يعلمنا بولس قائلاً "إن إنسبق انسان فأخذ في زلة ما فأصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة ناظراً إلى نفسك لئلا تجرب أنت أيضاً" (غلا 6: 1). بهذه الكلمات يريد بولس أن يقول أنه عندما تغضبنا خطية الآخرين يجب أن نفكر في أنفسنا فنرق في توبيخ الآخرين إذ نخشى أن تكون مثل هذه النفس.
إلا أن هناك أشياء ينبغي أن توبخ بصرامة فإذا لم ينتبه إنسان لإثمه فإن التوبيخ يذكره بجسامته. أما إذا تغاضى عنه فإنه يلمس خطورة خطيته حسب قسوة التوبيخ. ومن واجب الراعي أن يكشف عن أمجاد الوطن السماوي وأن يظهر تجارب العدو القديم، التي تحوم في رحلة العالم وأن يصلح من إعوجاج الرعية بالتأنيب حين لا يجدي معهم العطف حتى لا يتحمل الراعي كل الذنب إذا هو لم يغضب للإثم.
وهكذا قيل لحزقيال "وأنت يا ابن آدم فخذ لنفسك لبنة وضعها أمامك وارسم عليها مدينة أورشليم" ثم أضاف قائلاً "واجعل عليها حصاراً وابني عليها برجاً وأقم عليها مترسة واجعل عليها جيوشاً وأقم عليها مجانق حولها" وأضاف الرب واضعاً متراساً لحزقيال "وخذ أنت لنفسك صاجاً من حديد وأنصبه سوراً من حديد بينك وبين المدينة" (حز 4: 1 – 3).
أليس حزقيال مثالاً للمعلم، لذلك يقول له الرب "خذ لنفسك لبنة وضعها أمامك وارسم عليها مدينة أورشليم" المعلمين الصالحين يضعون لبنة أمامهم عندما يتعهدون قلوب السامعين ويشددون عليها الحراسة بتكريس عظيم. وهكذا أمرهم الرب أيضاً أن يرسموا عليها مدينة أورشليم. أي أنهم سيتعبون محاولين كشف رؤيا السلام الفائق لقلوب عالمية. ولكن حيث أننا لا نستطيع إدراك أمجاد الوطن السماوي دون أن نتمرس على مواجهة تجارب عدونا الماكر العظيمة فقد أضاف الرب قائلاً "واجعل عليها حصاراً وابني عليها برجاً". وهكذا الرعاة الصالحون يسبحون حول اللبنة التي رسم عليها صورة أورشليم المدينة، عندما يحصنون القلوب العالمية والتي تسعى وتشتاق إلى المدينة السمائية ويكشفون لها مدى قسوة هجوم آثام هذه الحياة المعادية لهم. وعندما يكشف الراعي كيف أن كل خطية تضرب حصاراً حول المتقدمين في النعمة فإنه حينئذ يجعل حصاراً على أورشليم ولأنه ينبغي أن نعرف أننا لا ينبغي فقط أن نقاوم الخطية بل أن ننمي الفضيلة التي تمنحنا القوة أضاف الرب قائلاً "إبن عليها برجاً". وهكذا يبني الرعاة الصالحون أبراجاً عندما يظهرون الفضائل التي نقاوم بها الرذائل. وحيث تنمو الفضيلة وتقوى هكذا تندلع حرب التجارب وتزيد. ولذلك أضاف الرب قائلاً "وأقم عليها مترسة وأجعل عليها جيوشاً وأقم عليها مترسة وأجعل عليها جيوشاً وأقم عليها مجانق حولها" والترس يقام بالحديث عن كتل التجارب المتلاحقة، وكما أنه يجعل جيوشاً عليها عندما يحذر السامعين من شباك العدو الماكر، وعندما يعرف الراعي شعبه بأخطار التجارب المحيطة به في هذه الحياة والتي تخترق حواجز الفضيلة فإنه يقيم المجانق حولهم.
ولكن بالرغم من توضيح الراعي المستمر لهذه الأمور فإن هذا لا يرفع من عليه مسئولية الأبدية إذا لم تتحرك روحه في حموة الغيرة وشدتها لمواجهة تراخي كل فرد. لذلك أضاف الرب أيضاً "وخذ أنت لنفسك صاجاً من حديد وأنصبه سوراً من حديد بينك وبين المدينة" فالصاج هنا يرمز لحمو العقل والحديد يرمز لقسوة التوبيخ. إذ لا شيء يشغل عقل المعلم ويؤلمه أكثر من غيرة الله المشتعلة وهكذا إكتوى بولس بالصاج المشتعل فقال "من يضعف وأنا لا أضعف. من يعثر وأنا لا ألتهب" (2كو 11: 29). هذه الغيرة الملتهبة لله تقوي الإنسان وتحصنه وتنحي عنه تهمة الإهمال. ولذلك قيل حقاً "وأنصبه سوراً من حديد بينك وبين المدينة".
لكن عليها أن نذكر أنه من الصعب على الراعي في مثل هذه الأمور أن يتجنب بعض ألفاظ التوبيخ التي كان ينبغي أن يتحاشاها إذ يحدث عادةً أن يتطرف المعلم في توبيخه عندما يريد أن يصلح من خطأ أحد الرعية. فيطرح بذلك قلوب الخطاة في هوة اليأس لذلك فإنه من الضروري على الراعي الذي يحزن على رعيته أن يستغفر الله في حزن لأنه أحزن قلب رعيته أكثر مما يجب فأخطأ إذ تطرف في غيرته.
هكذا قال الرب لموسى "ومن ذهب مع صاحبه في الوعر لحتطب حطباً فاندفعت يده بالفأس ليقطع الحطب وأفلت الحديد من الخشب وأصاب صاحبه فمات فهو يهرب إلى إحدي تلك المدن فيحيا. لئلا يسعى ولي الدم وراء القاتل حين يحمى قلبه ويدركه إذا طال الطريق ويقتله وليس عليه حكم الموت لأنه غير مبغض" (تث 19: 5). والراعي يذهب في الوعر مع صاحبه ليحتطب وبذلك ينتبه إلى أخطائه وهو يقطع الحطب عندما يخلص صاحبه من الخطية في حب ورعاية. ولكن إذا أفلت الحديد من الخشب فإن التوبيخ يكون قد زاد عن حده وينحدر إلى القسوة. أما إن أصاب الحديد صاحبه فمات يكون الراعي قد قتل روح المحبة في رعيته بكلام السباب.
وهكذا تحل الكراهية في قلوب الرعية. إذا إشتد عليها التوبيخ. وإذا أفلت الحديد من الخشب وأصاب صاحبه فمات فينبغي أن يهرب إلى المدن الثلاث حتى يحتمي في واحدة منها. لأنه إن حزن بندم واحتمى بالرجاء والمحبة في وحدة الأسرار فإنه لا يحتسب مذنباً. وحتى ولي الدم لا يقتله لأنه عندما يأتي الديان العادل الذي جعل نفسه واحداً معنا وشارك طبيعتنا لا يرضى أن يأخذ بدنبنا. إذ قد إحتمينا في الإيمان والرجاء والمحبة في ستر مغفرته.

الفصل الحادي عشر
إنسكاب الراعي على التأمل في الناموس المقدس

نعم إن هذا كله يتحقق إذا كان للراعي روح الخوف المقدس والحب إذ أنه يتأمل كل يوم الكلمات المقدسة.
إن كلمات الوحي الإلهي تعيد إليه حاسية المسئولية والتمييز بالنسبة لحياة السماء التي كثيراً ما يهدمها طول الإختلاط بالناس. فالإنسان الذي يختلط سنيناً طويلة بالعالم عليه أن يجدد على الدوام حبه للوطن السماوي. حقاً إن النفس تنحدر كثيراً في وسط مشاغل العالم وبما أنه من الواضح أنها تنحدر إلى الهلاك في دوامة إلا المشاغل الخارجية. فإنه ينبغي على الدوام أن يكون هدفها هو القيام ساعية وراء إتمام الوصايا. هكذا يوصي بولس التلميذ الذي تسلم الرعاية قائلاً له "إلى أن أجيء أعكف على القراءة والوعظ والتعليم" (1 تيم 4: 13). وهكذا يقول داود "كم أحببت شريعتك اليوم كله هي لهجي" (مز 119: 97). ولأجل هذا أمر الرب موسى بخصوص حمل التابوت "وتسبك له أربع حلقات من ذهب وتجعلها على قوائمه الأربع .... وتصنع عصوين من خشب السنط وتغشيهما بذهب وتدخل العصوين في الحلقات على جانبي التابوت ليحمل التابوت بهما. تبقى العصوان في حلقات التابوت لا تنزعان منها" (حز 35: 12 – 15) إن التابوت هو رمز للكنيسة المقدسة وقد صارت الوصية إلى موسى أن يسبك له أربع حلقات على قوائمه الأربع ومن الواضح أن هذه تشير إلى أربع جهات العالم التي إنتشرت فيها الأربع أناجيل. أما العصوان من خشب السنط اللذان يثبتان في الحلقات فهم الرعاة الساهرين الذين ينكبون على وصايا الكتب المقدسة ويلتصقون بها على الدوام معلنين وحدانية الكنيسة المقدسة وكأنهم يحملون التابوت بدخولهم في الحلقات. ومعنى حمل التابوت بخشب السنط هو أن ندخل الكنيسة المقدسة بتعاليمها إلى عقول المؤمنين وإذ يغطى الخشب برقائق الذهب فإن التعاليم تشع في هذا العالم وهكذا أضاف الرب "تبقى العصوان في حلقات التابوت لا تنزعات منها". إن الذين يتعهدون خدمة الرعاية عليهم ألا يفارق سفر الشريعة فمهم. وقد أمر الرب موسى أن لا تنزع منها العصوان حتى لايصرف وقت عند الضرورة في حمل التابوت. وإذا سألت الرعية الراعي في أمر روحي عليه ألا يتأخر في الإرشاد. لتبقى العصوان دائماً في الحلقات، ليتأمل الرعاة على الدوام في الكتب المقدسة حتى يرفعوا سريعاً تابوت العهد الجديد فيعلموا عند الضرورة.
لذلك قال بطرس الرسول "بل قدسوا الرب الإله في قلوبكم مستعدين دائماً لمجاوبة كل من يسألكم عن سب الرجاء الذي فيكم بوداعة وخوف" (1بط 3: 15). وكأنه يريد أن يقول "أن تبقى العصوان في الحلقات لا تنزعان منها".

No comments:

Post a Comment