للعمل في الرعية... مطلوب كاهن
الخوري بول ناهض
http://www.anteliasdiocese.com/home/2009-02-11-09-58-42/668-2009-12-04-11-40-46.htmlملّكنا شعورٌ غريب عندما نفكّر بالكاهن والدعوة الكهنوتية. شعور من الرهبة متناقض
تمتزج فيه أحاسيس الإطمئنان والسكون من حيث أنّ الكاهن يبقى علامة الرجاء الأنصع في أيّامنا
وأحاسيس من القلق والخوف تنطلق من رغبتنا أن تكون شهادة كهنتنا للعالم صادقة لا عيب فيها
كم يكون عالمنا هذا تعيساً دون الكاهن وكم تعيس الكاهن الذي يعيش في هذا العالم ناسياً أنّه ليس من هذا العالم - يو ١٥/ ٩
في السنة الكهنوتيّة التي دعانا فيها قداسة البابا لنتأمل في الدعوة والخدمة الكهنوتيّة، نسأل: أيّ كاهن لزمننا الحاضر؟
كنيستنا بحاجة لكاهنٍ يكون
١. رجل الشراكة والوحدة
٢. رجل الشفاءات والتعزية
٣. رجل الرؤية والعشق الرعويّ
رجل الشراكة والوحدة
إن الشراكة الكهنوتيّة واحدة وبنفس الوقت مثلثة الأضلاع فالكاهن يستمدّ حقيقته من كهنوت المسيح الأوحد بوضع يد الأسقف في سبيل خدمة الجماعة الرعوية. والإرشاد الرسولي "أعطيكم رعاة" (١٥) يدعو في هذا الشأن الكهنة كي يكونوا امتداد حضور المسيح، الراعي الأوحد والأعظم، متشبهين بنمط حياته وعاكسين صورته شفافةً وسط القطيع الموكول اليهم، وقد استعان هذا الإرشاد لتبيان ذلك بنص ١ بط ٥/ ١ - ٤ : "وأما الكهنة الذين فيكم فأحرضهم، أنا الكاهن مثلهم والشاهد لآلام المسيح، والشريك أيضا" في المجد المزمع أن يتجلى أن ارعوا رعية الله التي أقمتم عليها، لا قسراً بل عن رضى بحسب مشيئة الله، لا طمعاً في مكسب خسيس بل عن بذل ذات، لا كمتسلطين على نصيب خاص بل كمن يكون مثالاً للرعيّة... ومتى ظهر رئيس الرعاة تنالون إكليل المجد الذي لا يذوي".
تلك هي حقيقة وطبيعة كل كاهن وهو أن يكون بخدمته استمراراً وتكملةً لذبيحة الإبن وهذه الطبيعة لا تستطيع أن تتحقق الا بمقدار ما يكون الكاهن متحداً بالمسيح، من خلال الشراكة الإيررخية مع الأسقف وفي اندماجٍ أخويٍّ مع الجسم الكهنوتي لخدمة الرعية. لذلك فإن الميزة الأساسية للخدمة الكهنوتية هي انها لا تتحقق الا كعملٍ جماعيٍّ تشاركيٍّ والمشاركة الحقيقة لا تقوم ولا تعطي ثماراً مرجوة الاّ اذا كان دافعها الحب. هذا الحبّ في الشراكة مع الله يُعبّر عنه بالعبادة والحياة الروحيّة المنتظمة؛ أما مع الاسقف فالحب يتجسّد بالطاعة الكنسيّة ومع الأخوة الكهنة بالتعاون الايجابيّ الذي يتخطى العلاقات الشخصيّة والتناغم النفسي والعاطفي ويهدف الى بنيان كنيسة المسيح في الأبرشيّة.
هذا الحبّ، أساس كلّ مشاركة، يتجسّد بنوعٍ خاص في قلب الجماعة الرعويّة، رغبةً ملحّة في إعلان بشارة الخلاص للجميع وسعياً مشتركاً الى الحقيقة وعملاً دؤوباً في سبيل العدالة والسلام. وهذا كله لا يتّم الاّ بالصلاة وفي جوّ من التواضع والثقة المتبادلة. فلا غرو إن قلنا أنّ الرعيّة هي المكان الأنسب حيث يختبر الكاهن رغبته وقدرته على الحبّ. حبٌ قد يؤدّي به الى الصليب على غرار معلمه. حبٌ قد يجعله يتنازل عن حقٍّ له. حبٌ قد يجعله يتخطى ذاته في وقتٍ يكون هو بأمس الحاجة أن يكون لذاته، ولذاته فقط. حبٌّ يساعده على الترفع عن مصالحه الشخصيّة. حبٌّ يدفعه أن يكون اميناً للدعوة الني دُعيّ اليها. حبٌّ يجعله يعيش حالة فرحٍ تتخطى كل الأزمات الرعويّة. هذا الحبٌ عند الكاهن هو بالتأكيد سبيلٌ لخلاص نفسه.
رجل الشفاءات والتعزية
عندما أقام الربّ رسلاً وأرسلهم الى العالم، أوكل اليهم ان يشفوا الناس: "... وأي مدينة دخلتم... اشفوا المرضى الذين فيها وقولوا لهم: قد اقترب منكم ملكوت الله" (لو ١٠/ ٨-٩) والشفاء نوعان، شفاء الجسد وشفاء الروح.
الكاهن رجل الشفاءات والتعزية لأنه رجل الأسرار المقدسة. إنّ يديه تشبه أيدي كل الناس: منها الصغيرتان، منها الكبيرتان، منها مَن تعملان وتتعبان وتتجرحان ومنها من تبقى ناعمتين. يدا الكاهن تشبه كل الأيدي إنما بفارق وحيد وهو انهما مكرستان. لقد مُسحتا بالزيت المقدس فتأهلتا كي تحملا العزاء للناس. بها يحوّل الكاهنُ الخبزَ الى الجسدِ المكسور المعزّي والخمرَ الى الدمِّ الالهيِّ المسكوب خلاصاً وأماناً. بها يعطي الحلّ من الخطايا ناضحاً القلوب المنكسرة ببلسم الغفران مُعيداً اياها الى الآب إذ انه ما من نعمةٍ اكبر من أن يكون الانسان قريباً للآب. بها يخفف اوجاع الناس لأنه بإسم المسيح وبزيت المرضى يداوي الأوجاع ويرافق المتألمين على طريق جلجلتهم.
يدا الكاهن مكرّستان أيضاً للعطاء المادّي فشماله لا تعرف ما صنعته يمينه. هو حقاً رجل الشفاءات والتعزية لأنه يحقق في خدمته ما يطلبه الرب من الابرار والصدّيقين: يسقي العطشان ويطعم الجائع، ويأوي الغريب ويكسو العريان ويؤآسي المريض ويزور المسجون. وقد لا يلقى مقابل كل هذه الاعمال تعزيةً الاّ من الذي أرسله، إذ كم من مرّة يتعرّض الكاهن لأقسى انواع الانتقادات غير المبررة ولا المستندة الى منطقٍ صحيح بل المُهينة أحياناً. يحمل التعزية للناس دون انتظار اي مكافأة سوى ان يسمع من الآب: "كنت اميناً على القليل فسأقيمك على الكثير، ادخل فرح سيّدك" (متى ٢٥/ ٢١)، فيتعزى!
هو رجل الشفاءات والتعزية لأنّه نال الشفاء من المسيح وتعزى قلبه من جراحات قلب المصلوب. هذا القلب المفتوح أبداً ممراً إلى الله. إنه رجل الشفاءات والتعزية لأنه يحمل من عند الصليب حب الكنيسة للناس، كلِّ الناس. هو يعرف خرافه واحداً واحداً وخرافه تعرفه. يعرفهم معرفة بشرية من خلال علاقات أخوّة غايتها ضخ الرجاء وقت المحن كما فعل الأنبياء وسط شعبهم في أوقات الضيق عندما بات السؤال ملحّاً: "هل الله في وسطنا"؟ الكاهن هو مَن يجعل اللهَ قائماً في وسط الجماعة.
رجل الرؤية والعشق الرعويّ
الكاهن الكاهن هو من يتوق ويعمل على ملازمة رعيته وكأنها الحبيبة التي لا يخفق القلب الاّ لها فكما اختار المسيح كنيسته عروساً له هكذا يجعل الكاهن من رعيته حبيبة يتّحد بها اتحاداً اسرارياً. إنه العشق الرعوي! هذا العشق منبعه إختبار شخصيّ مع الله: "ذاك الذي سمعناه، ذاك الذي رأيناه بعينينا، ذاك الذي تأملناه ولمسته يدانا... نبشركم به ايضاً لتكون لكم مشاركة معنا ومشاركتنا هي مشاركة للآب ولأبنه يسوع المسيح" (١ يو ١/ ١-٣). إنه عشق غايته الإنسان لأنّ الكاهن في العالم يتقاسم كلّ شيء مع شعبه: "إنّ آمال البشر وافراحهم، في زمننا هذا، إنّ أحزانهم وضيقاتهم، لا سيما الفقراء منهم والمعذبين جميعاً، لهي أفراح تلاميذ المسيح وآمالهم، هي أحزانهم وضيقاتهم" (فرح ورجاء1).
بل أكثر من ذلك، الكاهن يعطي ذاته بكليّتها لرعيّته إذ إنه على مثال المسيح الخادم يصبح الخبز المُعطى "هو الذي يُعطى، هو الذي يُعطي..." ولكنه لا يستطيع أن يُعطي الاّ ما أعُطي أو ما أخذ، وهنا تكمن المسؤولية الأكبر إذ أنّه على عطايانا يتوقف خلاص العالم، لذلك يبقى السؤال: ماذا نأخذ...، والأهم: ماذا نُعطي؟
الرّعية عالم معقّد من العلاقات والأطباع والأشخاص والهموم والتطلعات وعلى الكاهن أن يدير كلّ ذلك بروح من الحبّ والتواضع والحزم والرؤية. لكلّ رعية مشروعها الرعويّ الذي يصبّ في مشروع الأبرشيّة ومنه في المشروع الكنسيّ الكبير. لذلك فإنّ العمل الرعويّ لا يكون بأيّ حالٍ عملاً فردياً واعتباطياً بل هو عملٌ فريقيّ منظّم، عملٌ مؤسساتيّ رؤيويّ يقوم على التخطيط والتحقيق والتقييم. هذه المعادلة المثلثة يجب أن تحكم كلّ الإنجازات الرعويّة والنشاطات الرسوليّة. ألم يقم المسيح بأعماله بهذا النفس المنطقي؟
لكنيسة اليوم مطلوب كاهن يتميّز بكلّ تلك الصفات. غير أنّ خدمة الكاهن تتأثر كثيراً بنوعية العلاقات التي تربطه بأبناء رعيّته ومدى التجاوب القائم بينه وبينهم. لذلك، فكما نطلب من الكاهن ميزات معينة مُلزِمة كذلك نرغب برعية تلتزم أن تعيش كهنوتها العام
١. كيف نستقبل ونقبل كاهننا الجديد؟ غالباً ما نسمع: إنّ كاهننا السابق "على رغم علاّته" قد تعوّدنا عليه. نعرف كيف نتعاطى معه... والآن ماذا يخبىء لنا هذا الكاهن الجديد؟ نبدأ بانتقاده قبل أن نعرف خيره من شره. يقول خوري آرس بهذا المعنى: "لا نُصغي إلاّ إلى الكهنة الذين يلائموننا ونرتاح اليهم، ولكن يجب أن لا نتصرف هكذا. عندما نضع الخمر في وعاءٍ، أكان ذهباً أم نحاساً ، فالخمر الجيد يبقى دوماًً طيباً. الكاهن أيّاً يكن، هو أداة يستعملها الربّ المحب كي يعطينا بواسطته كلمته". الكهنة، كل الكهنة، هم عطية الله للعالم.
٢. أيّة صورة عن الكاهن نعطي لأولادنا في بيوتنا؟ وهل كلامنا عن الكهنة يشجعهم على سماع صوت الله في داخلهم فيلبّوا الدعوة إلى الحياة الكهنوتية؟ إننا جميعاً مدعوون أن نساعد أولادنا كي يكتشفوا من خلال نظرة إيمانيّة مَن هو الكاهن.
٣. كيف نساعد كهنتنا كي يعطوا ما عندهم، كي يعطوا أجمل ما عندهم؟ الكاهن هو كالسراج والسراج لا يوضع تحت المكيال، في غرف الرعيّة المظلمة، تضيئها شاشات الكمبيوتر وأصداء مشاكل وقفها وحرتقات عائلاتها تتردد في أرجائها. الكاهن يتعب كما كلّ الناس. فهلاّ وقفنا بجانبه وقمنا معه بخدمة الرسالة، كلٌّ بحسب الموهبة التي أعطيت له، فيكونوا لنا النور الذي يهدي الناس الى المسيح.
الكاهن هو أيقونة المسيح الكاهن، هو الذي يعطينا المسيح. الله الآب اختاره ليعطينا الإبن، طبعاً إنه يخطىء مثل كلٍّ منا – وإن كان مدعوّاً أكثر من غيره الى تقديس ذاته - ولكنه بحكم سرّ الكهنوت هو يخدم بإسم وبشخص المسيح. يقول خوري آرس: "الكاهن لهو أمرٌ عظيم ! إذا أتيت إلى العذراء أو إلى أيّ ملاك، فهل يعطونك الحلّ من خطاياك؟ كلا. هل يعطونك جسد المسيح؟ كلا. وإن كان لك مئتا ملاك لن يعطوك الحلّ. إنما كاهن واحد يستطيع، هو وحده يمكنه أن يقول لك: اذهب بسلام، أنا باسم المسيح اغفر لك. هو وحده يمكنه أن يقول لك: هذا هو جسدي! نعم الكاهن لهو أمر عظيم"!
في طلبة الكهنة لا نصلّي: "أعطنا يا رب كهنة"، بل نصلي: "أعطنا يا رب كهنة قديسين". فيا رب أعطنا كهنة يكونون قديسين وسط شعبك ليقدّسوه
الخوري بول ناهض
عن مجلة كنيستنا - العدد ٦٨، آذار ٢٠١٠